عاشراً. كذلك الحال لم تتوقف مراجعات المفكرين لمسألة الديمقراطية وتبنيها على السياسيين القوميين واليساريين. بل انتقلت إلى الإسلاميين كمفكرين بداية على استحياء، ومن ثم تحولت الى القوى الحزبية التي تنهل من فكر الإخوان المسلمين وخطهم، فمنذ نهاية الستينات من القرن الماضي ومع انفصال التيار الإسلامي لمسارين: أولهما عنفي جهادي ضد الأنظمة الحاكمة ويسعى لبناء الدولة الإسلامية منطلقة من أفكار سيد قطب والمودودي ومروان حديد وسعيد حوى ..الخ.. وصنعت حركاتها المسلحة؛ التي واجهت السلطات الحاكمة و انهزمت أمامها حيث ضُربت بعنف ونكل بها وشرّدت وأودعت السجن، كجماعة الطليعة المقاتلة في سوريا التي اصطدمت مع النظام السوري في السبعينات ، حيث أدت لنتائج كارثية مجتمعيا، حصلت مذابح في مدينة حماه وغيرها ، واعتقالات وإعدامات في تدمر ومدن اخرى، وتم تدمير بنية المجتمع المدني ومواجهة القوى الوطنية الديمقراطية. حيث اعتبرها النظام السوري فرصة لإنهاء السياسة المعارضة حزبيا وواقعيا في سوريا ومنذ أواسط الثمانينات عمليا، و كجماعة الجهاد في مصر التي اغتالت السادات، والجماعة الإسلامية المصرية ايضا الذين انتهوا أخيرا ليكونوا احد اهم الروافد لتنظيم القاعدة الذي انشأ في افغانستان، في معارك مواجهة الروس ووفق اجندة دولية كانوا هم فيها ادوات لامريكا وخططها بوعي او بدون وعي، وسينتهي هذا التيار بنسخته الاسوأ داعش (كتبنا عن هذا المسار بالتفصيل ايضا)…
عاشرا. أما المسار الآخر فهو الذي اختطه الإخوان المسلمين وأغلبهم منذ مرشدهم حسن الهضيبي؛ الذي طرح كتابه دعاة لا قضاة ردا على كتاب سيد قطب معالم على الطريق، وأخذ مسارهم طابعه الدعوي والخدمة الاجتماعية العامة والانتشار الأفقي مجتمعيا في المساجد والأحياء والمدن والقرى، وكان هناك شبه اتفاق غير معلن بين نظام مبارك وبينهم أن لا يقتربوا من السياسة؛ وانهم لن يأخذوا صفة شرعية كإخوان مسلمين، ويمكن أن يترشحوا انتخابيا في مجلس الشعب كأفراد او على قوائم احزاب اخرى، واستمروا طول الوقت هامشيين سياسيا وحاضرين مجتمعيا إلى أن جاء الربيع العربي، فكان الشباب الإسلامي المصري أحد أهم روافد ثورة مصر، و المهم هنا أنه لم يتم تغيير جذري في البنية الفكرية عند اخوان مصر الا حديثا، واعترفوا بالديمقراطية وسيلة للحكم واستفادوا من ذلك بعد ثورة ربيع مصر فحصدوا الرئاسة والمجلس النيابي، لكن انقلاب السيسي أعاد اسلامي مصر للمربع الأول بوصمهم كلهم كإرهابيين، وظهرت الظروف الموضوعية لخلق عنف اسلامي جديد، تحتاجه اجندة النظام الانقلابي والقوى الغربية و(اسرائيل)، ليتم ضرب الحاضنة الشعبية والشبابية للربيع العربي واحتمالاته المستقبلية خاصة بعد ان تم اغتيال الربيع العربي عموما…
حادي عشر. وكذلك الحال في تيار الإخوان المسلمين في تونس (حركة النهضة) التي تبنت باكرا الخيار الديمقراطي، والتي استفادت من انقلاب بن علي على بورقيبة، لتحصل على شرعية سياسية وحضور مجتمعي، لكن بن علي سينقلب عليهم بعد ان يستتب له الحكم في تونس، فيحل الحركة ويعتقل البعض ويهرب البعض، ولن تعود الى ساحة الفعل في تونس إلا في الربيع التونسي الذي يعطيها حضورها الذي تستحقه، واصبحت جزء من النسيج المجتمعي والسياسي التونسي، حتى انقلب عليها بعد الانتخابات الاخيرة قيس سعيد الرئيس الجديد في انقلاب ابيض ، واعادها الى المربع الاول بصفتها ارهاب اسلامي.
أما الحراك الإسلامي الجزائري مطلع تسعينيات القرن الماضي، الذي اراد الاستفاده من فسحة الديمقراطية، وأعلن تبنيه الفكري والعملي لها، ونجح بأغلبية كبيرة في الانتخابات التي سرعان ما انقلب الحكم العسكري عليها ونكل النظام بالإسلاميين وادخلهم السجون( وللغرب والخارج دور في ذلك)، و أعطى المبرر الموضوعي للإسلاميين العنيفين في الجزائر أن يعادوا النظام ويحاربوا، اعتمد النظام الجزائري أسلوب الحرب الحقيقيه عليهم وعلى بناهم الاجتماعية؛ تماما كنموذج النظام السوري في تعامله مع الإخوان المسلمين السوريين في ثمانينات القرن الماضي، وسيدخل الجزائر في حرب أهلية استمرت عقد ونصف حتى استتبت الأمور للنظام العسكري الاستبدادي الجزائري وعادت البلاد الى الاستبداد التي كانت عليه….
ثاني عشر. اما على مستوى الاخوان المسلمين السوريين فقد تأخروا في مراجعتهم الفكرية الى اوائل الالفية الجديدة، حيث أعلنوا خيارهم الديمقراطي للدولة والمجتمع، وسرعان ما سيلتحقون بالتيار الديمقراطي السوري ممثلا باعلان دمشق، وسيكون لهذا الحضور والإعلان عنه تأثيرا على النظام السوري وموقفه منه؛ حيث سيتراجع عن كل وعوده الديمقراطية، فيلغي المنتديات، ويعتقل وينكل بالناشطين السياسيين وناشطي المجتمع المدني ..الخ، ويعيد الواقع السوري لثباته وقهريته وغياب السياسة فيه. إلى أن جاء الربيع العربي وامتد الى سوريا، وتحرك الشباب السوري لمواجهة القهر والخوف وفقدان الكرامة والمظلومية وفقدان الحرية وفقدان الامان الاقتصادي وضد الفساد والاستحواذ على السلطة والدولة وخيرات البلاد كلها، وتحركوا بثورة تطالب بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والحياة الأفضل، واندمج فيها الناس شبابا وكهولا نساء ورجالا بكل الاعمار وكل له مطلبه من ثورة الشعب السوري، واختفت كل الفوارق المجتمعية والسياسية والعقائدية والاثنية ليظهر المواطن السوري المطالب بالحقوق. لكن ذلك يتغير بعد أن يعلن النظام الحرب على الشعب والثورة، ويبدأ ب قتل الثورة السورية وشعبها واقعيا…
ثالث عشر. وبالعوده لاصل موضوعنا التيار الديمقراطي العربي والسوري كمسار، فاننا نجد ان المراجعات النظرية على عمقها او محدوديتها عند الكل فانها لم تصل للعمق في السلوك، وسرعان ما سيظهر -عند الكل- رواسب الجذور الشمولية في الفكر، والاستبدادية في السلوك، فاغلب من حمل الخيار الديمقراطي من احزاب وحركات تاه في التطبيق فالبعض غادر السياسة، والبعض انشق على نفسة؛ سواء لاسباب سياسية او تنظيمية تعود بالعمق لفشلها في تمثل الديمقراطية فكرا وسلوكا، وان اردنا الحديث عن السوريين الديمقراطيين من كل التيارات، نرى غياب مصداقيتهم عند الانتقال للعمل الديمقراطي في حركاتهم واحزابهم وفيما بينهم، فعندما تطلب الواقع السياسي للثورة السورية ان يكون لها تمثيلها السياسي، ووضع الكل القوميين واليساريين والاسلاميين والليبراليين امام مسؤولياتهم فقد اظهروا تخلفهم الديمقراطي واستمرار مرض الاستبداد في افكارهم وسلوكهم، فالكل في مواجهة بعضهم؛ وقضية الشعب الحقيقية غائبة، هي امراض الذات والتخلف الفكري والسياسي التي انعكست سلوكيا بالسوء على كل مناشط الثورة السورية سياسيا، ومن ثم في بقية المناشط بمافيها العسكرية؛ لغياب الشفافية والوضوح والتبعيه للداعم و عدم الاحتكام للصالح العام وعدم الالتزام بالاسلوب الديمقراطي في ادارة اعمالهم عموما، وهذا انعكس على الاداء في كل المناشط بالفشل او التعثر، وتبين ان الديمقراطية فكرا وسلوكا لم تكن من اصل البنية الفكرية والذهنيهدة والسلوكية لهم، بل مجرد قشرة سرعان ما تسقط امام الممارسة، لتعود الشمولية والعقائدية والذاتية والمصلحية للظهور على حساب كل شيئ، وهنا ابتدأ الفشل في ثورتنا على مستوانا الذاتي وبغض النظر عن الظروف المحيطة…
رابع عشر. والأسوأ من هذا المآل الذي أصاب قوى التغيير التي كانت بالعمق حاملة شعلة الربيع العربي، انها بدل ان تراجع أفكارها وممارساتها وتبدأ بعملية نقد ذاتي بناء، اعتمدت على رمي الخطأ على الآخر؛ وبدلا من استمرار آلية العمل التحالفي الجبهوي الديمقراطي ضد النظم الاستبدادية المؤبدة من جديد، عادت مجددا الى التمترس أمام بنياتها العقائديه: فهذا (اسلامي اقصائي ارهابي) وذاك (علماني يريدنا عبيد للغرب)، وبدأنا حرب تفتيت مجتمعي للفناء العام، فهناك من يسعّر حرب (سنية -شيعية علوية) او حرب (عربية- كردية) او حروب هويات..الخ ، تريد استحضار وجودها في الصورة السياسية العامة كبدائل تفتيت مجتمعية ونحن لم نتحرر من النظام الاستبدادي بعد، الكل انهمك في لعبة سياسية جاهلة تخدم أعداء الشعب والثورة السورية، فما جدوى حروب الهويات و الاقصاءات والتخوين إلا مصلحة أعداء الشعب العربي والسوري من الدول العظمى والغرب عموما و(اسرائيل) والحكام المؤبدين علينا كآلهة للشر المطلق …
اخيرا. ان التيار الديمقراطي العربي والسوري منه، مطالب ان يرمم ذاته ويتجاوز عيوبه ويعيد قيادة دفة الصراع مع أعداء الشعوب العربية وشعبنا منهم، بمواجهة حكام مستبدين وحلفاؤهم و (اسرائيل)، وان يعيد التركيز على معركته المركزية: معركة التغيير الديمقراطي السياسي في دولنا لنقف على ارض ثابتة، ونتحرك فعلا للتقدم والحرية والكرامة الانسانية والعدالة والديمقراطية والحياة الافضل… .متجاوزين حروب الهويات و الاقصاءات والتخوين والاتهام المتبادل، والعمل جميعا بشفافية ووضوح ومصداقية…
.ان شعوبنا وبلادنا أمام احتمال الزوال وواقعنا السوري اقرب مثال….فهل نتعظ ونفعل ما يجب فعله…