لا بد من العودة حين الكلام على السياسة إلى أصولها وفلسفتها ونشوء مفاهيمها . فحين يصف أرسطو في مقولته الشهيرة الإنسان بأنه ” حيوان سياسي ” نجد في ثنايا هذه العبارة الموجزة، حقيقة ساطعة كالشمس في رابعة النهار حول ماهية السياسة ، هذه الحقيقة تعني أن الفرق بين الإنسان والحيوان يكمن في السياسة، أي أن الإنسان انقطع عن كونه حيواناً كباقي الحيوانات الأخرى، حينما غادر حياة القطيع إلى الحياة الاجتماعية وأصبح سياسياً ، فالسياسة نشأت مع نشوء المجتمعات، فما أن يضطر الأفراد إلى التعايش بشكل جماعات حتى تظهر شروط الحياة السياسية، وينتقل الإنسان من فرديته إلى النظام العام، أي إلى المجال السياسي في المجتمع، مهما كان شكله ومستوى تطوره التاريخي . والجماعة الإنسانية لا تتمكن من النمو والتقدم الاجتماعي قبل أن تكون سياسية . وقد أكد ” هويز ” موضوعية السياسة وأهميتها المحورية في البنية الاجتماعية حينما قال : ” من غير الممكن بقاء العلاقات الاجتماعية مستمرة، إن لم توجد العلاقات السياسية ” .
لا ريب أن مفهوم ” السياسة ” ارتبط أوثق الارتباط بالفكر الفلسفي اليوناني، وهو قد نشأ من فكرة المدينة – POLIS ” ، حيث انتقلت الممارسة السياسية من مجتمع القصور ومجتمع النخبة، إلى الفضاء الأوسع، إلى الساحة العامة، التي تتوسط المدينة ( الأغوار AGORA )، ففي هذا المكان يأخذ الخلاف مشروعيته، ويجري السجال والجدل والنقاش بين الأفراد المختلفين والجماعات المختلفة والأحزاب المختلفة، أي في هذه المساحة تجري مناقشة الشأن العام أو ( الشيء العام – – RES PUBLICA ) الذي عرب من قبل الرواد النهضويين العرب بـ ( الجمهورية ) . أما السياسة في عالمنا العربي فهي ما زالت على علاقة حميمة بأصلها اللغوي وبالماضي السحيق الذي نشأ فيه. وهي في الفهم العربي لا زالت مفعمة بالأصل اللغوي ( ساس – يسوس ـ السائس الذي يسوس دوابه )، أو ” الراعي الذي يرعى قطيعه “، ويؤيد مقولتنا هذه، ذلك الاستخدام المكثف للمفاهيم الرعوية الآن، في طول وعرض الممالك والجمهوريات على حد سواء، من المحيط إلى الخليج . فالسياسة حتى الآن في الفهم العربي، هي علاقات فاعل ومفعول هي علاقات فعل متعد ومفعول به ( بين السائس والمسوس ) . فالطرف الأول يقوم بفعل السياسة والطرف الثاني هو متلقن، لا يقوم إلا بفعل ” الانسياس .. ولقد تأصل هذا الفهم ” الرعوي ” للسياسة، من خلال ممارستها التاريخية، في اللاوعي الجمعي للناس، فالمعارضات في التاريخ العربي الإسلامي، حينما كان يصير لها الأمر، كانت تمارس السياسة بنفس الفهم الذي ينطلق من ثنائية الحاكم والمحكوم .. وحتى الرواد الأوائل في إعمال العقل والفكر الحر في التاريخ العربي الإسلامي، أي المعتزلة حينما دالت لهم الأمور، لم يتحملوا معارضيهم فوضعوهم في السجون . والنظر للسياسة على هذا المنوال عبرت عنه لدى عامة الناس الأمثال الشعبية مثل ” العين لا تقاوم المخرز ” و ” السياسة لها أهلها ” و ” الله ينصر السلطان ” و ” حيدت عن ظهري .. بسيطة. … إلخ من هذا اللغو الذي كان لا يهدف إلا إلى اتقاء بطش السايس أو الراعي . إن الاختلاف بين الجماعات والطبقات والفئات في البنية الاجتماعية هو سبب السياسة ومنشؤها. ومن هنا ممارسة العمل السياسي في البنية السياسية يكتسب مشروعيته من موضوعية السياسة فيها، وبالتالي لا يمكن إلغاؤه بالأوامر من السلطات الحاكمة أو بقوانين تصوغها لأجل هذا الهدف ، وفي الحال الذي تقوم السلطات بعملية الإلغاء، تكون قد نقلت الممارسة السياسية من الساحة العامة إلى الأقبية والكهوف، وهنا تكون هذه السلطات هي التي شرعت في عملية العنف الاجتماعي إزاء الحركات السياسية المعارضة ، وفي الحقيقة، النظام الذي يطلب من المواطنين الامتناع عن ممارسة العمل السياسي بقوة القمع، هو مخالف لطبيعة الأمور في المجتمع أي متناقض مع موضوعية الاختلاف ومشروعيته الطبيعية. ومثل هذا النظام، لا يختلف في شيء عن محكمة الكنيسة في العصور الوسطى التي منعت الأرض من الدوران في رؤوس الناس، في تلك الأيام، وأجبرت ” غاليليه ” على تثبيت الأرض الدائرة في رأسه ودفعته لاستخدام ” التقية لينجو بنفسه، ولكن هذا العالم لم يستطع حينما كان يبتعد عن المحرقة المتأججة نارها، إلا أن يهمس بينه وبين نفسه : ” ولكنها تدور ..
إن النظام السياسي الذي لا يستند إلا للعنف في مواجهة معارضيه السياسيين هذا النظام لا يمكن أن يتقدم البتة، لأنه يخرج القسم الأكبر من أفراد المجتمع، من ساحة الفعل والإبداع ويحول ميدان السياسة إلى مستنقع للمياه الآسنة، الذي لا ينتج ثماراً ولا سنابل. إن نظاماً من هذا النمط لا يمكن أن يدوم حتى لو استمر في الذود عن نفسه في تنظيم القمع والإرهاب تنظيما منهجيا شاملا، إن النسق السياسي الذي هو رئيسي ومحوري ومسيطر ضمن مستويات البنية الاجتماعية الأخرى، هو كالنهر الذي إذا بنيت السدود في مجراه دون بوابات تنظم جريانه يغرق كل شيء ويفسد كل شيء. ويذهب هارولد لاسكي في كتابه أسس السيادة ليقول بهذا الصدد: ” إن مشكلة الحقوق السياسية هي من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن عند فقدانها القيام بواجبات المواطنة، وإن حقوق المواطنة في القول والكتابة والتعبير هي حقوق طبيعية، بمعنى أنها لا تعتمد على السلطة في مشروعيتها، وهي حقوق كامنة في قيمة الشخصية الإنسانية السامية، وحينما تكتب هذه الحقوق يصبح من الواضح أن الدولة تقضي على أية مطالب لها في ولاء الناس. ومن هنا، فالدولة التي ترفض إطلاق العنان أمام الجهود الإبداعية لدى الناس وتحرم مواطنيها الذين هم الأساس في تكوينها العضوي، من حقوقهم المدنية والسياسية تنتقل إلى مستوى هو ” تحت الدولة “، حيث في هذا المستوى الأخير الذي وصلت إليه تتقزم السياسة وتأسن وتستنفع، ولا يجد مواطنوها الذين لم يعودوا مواطنين، ملاذهم إلا في الكيانات الصغرى كالعائلة والعشيرة والطائفة والمذهب وكل الأشكال الأخرى من الكيانات التي هي ” قبل الوطن ” فتتسع الفجوة بين النخبة الحاكمة والأكثرية الشعبية، وتبدأ عملية الصراع ونظرا لأن السياسة لم تخرج بعد في العالم العربي، من إطار ثنائية الحاكم والمحكوم والتابع والمتبوع، فالصراعات الثوراتية العربية الراهنة تدور في الحلقة المفرغة وأن الكثير من المعارضات العربية الآن، وبخاصة المتطرفة منها، ليس لديها برامج سياسية ولا تضع نصب أعينها إلا أن يدول الأمر لها، لتعيد الكرة من جديد. لكن من الضروري التنويه هنا إلى أن التطرف الديني الذي يقض مضاجع المجتمعات العربية الراهنة، لم يكن بهذه الحدة وهذه الأبعاد لولا التهميش السياسي والاقتصادي والثقافي الواقع على شعوبها من الأنظمة الحاكمة، ولولا إبعادها عن المشاركة في الميدان السياسي وفي إدارة الدولة واتخاذ القرار، ولولا حرمانها من مؤسساتها القديمة التي فككت مؤسساتها المدنية الحديثة التي لم تشيد وباتت هذه الشعوب ليس أمامها من مهمة سوى البحث عن لقمة عيشها في الليل والنهار ولا يمكن ربط مشروعية العمل السياسي في المجتمع بمدى ولاء الأفراد والجماعات والأحزاب السياسة النخبة الحاكمة. فالحركات السياسية التي تمثل طبقات مختلفة وقئات مختلفة في البنية الاجتماعية من حقها أن تدافع عن أفكارها ومصالحها. وبالتالي فإباحة ممارسة العمل السياسي لهذه الحركات في الأصل والقانون الذي ينظم نشاط الحركات السياسية حتى يكون قانوناً عقلانياً وليس أمراً إدارياً أو عرقياً لا بد أن تكون وظيفة نظم نشاط هذه الحركات وليس منعه، وحينما لا توفر السلطات مثل هذا القانون الناظم وليس المانع، كما هو الحال في أكثر البلدان العربية، فهذا يعني أنها قد طردت أكثرية المجتمع من ميدان السياسة، وأبقت هذا الميدان حكراً على الأعوان والموالين . إن صيانة الدولة التي هي مجتمع إقليمي يتألف من حكومة ومواطنين بالتعريف، تتطلب حماية كل مكوناتها وفي الدرجة الأولى حماية مصالح المواطنين، وليس فقط حماية مصالح الحكومة . وفي الحال التي لا تصان مصالح الأكثرية في الدولة تنحدر هذه الأخيرة إلى أدنى مستوياتها تخلفاً .
لا بد من التفريق بين مفهومي الدولة والسلطة، فالذهن العربي ذهب خلال التاريخ وحتى اللحظة الراهنة إلى فكرة السلطة والحكم أكثر مما ذهب إلى فكرة الدولة . ومعظم الناس في البلدان العربية لا يخالون أنفسهم جزءاً من الدولة بل دائماً يعتبرون أنفسهم خارجها، ويخلطون بين مفاهيم الدولة والسلطة والحكومة ويعتبرونها مجرد مترادفات، وليس في ذهنهم أيضاً أن الدولة بالتعريف الحديث تتألف من طرفين : المواطنون أولاً والحكومة ثانياً ، وحتى الآن هناك بعض الناس لا زالوا يطلقون على موظف الحكومة لقب “دولاني ” . وفكرة الدولة بحد ذاتها بقيت على علاقة وثيقة بفكرة الإدانة أي بفكرة إدالة الأمور للغالب على المغلوب ( أو أديل الأمر له ) . بينما في اليونان القديمة والغرب على موظف الحكومة لقب دولائي ” . وفكرة الدولة بحد ذاتها بقيت على علاقة وثيقة بفكرة الإدالة
أي بفكرة إدالة الأمور للغالب على المغلوب ( أو أديل الأمر له ) . بينما في اليونان القديمة والغرب يحيل مفهوم الدولة إلى ( الحالة = ETAT – STATUS – STATE باللاتينية ) . والحالة تعبر عن توازن نسبي في حقبة زمنية محددة بين مكوناتها . وفي حال حرمان المواطنين في الدولة · الحالة . من الحقوق السياسية يختل هذا التوازن وتصبح الدولة في وضع ضعيف غير مستقر والاستقرار في دولة ما إذا كان لا يتوطد إلا عن طريق العنف والاستبداد هو استقرار مزعوم لأنه لا يستند إلى حالة التوازن النسبي بين جميع عناصر الدولة، أي بين المواطنين والسلطة . وليست دائما قوة السلطة وقدرتها على القمع تعبران عن قوة الدولة ومناعتها. فالسلطة العثمانية كانت في أضعف حقبها في عهد السلطان عبد الحميد، .. وهذا الأمر طبيعي جدا. فحين تهمش الأكثرية في المجتمع وتهمل مصالحها وتصبح مهددة في لقمة عيشها وتحرم من أبسط حقوق التعبير عن رأيها، فهذا لا يعني في نهاية المطاف سوى ضعف هذه الدولة وبداية انهيارها . ولنتأمل تلك الانهيارات الكبرى التي حدثت في العالم الاشتراكي السابق فنرى أن كل التوازنات والاستقرارات المزعومة التي كانت سائدة هي غير حقيقية وانتهت إلى حالات مشهدية من التفكك والانهيار، وحتى فاجأت خصومها بذلك .
إن السياسة في العالم العربي في اللحظة الراهنة هي كما يقول الكاتب السياسي ” برهان غليون “. في حالة استنقاع . . فالجماهير العربية مطرودة من ميدان السياسة بالعنف. ونحن نرى أن هذا الاستنقاع السياسي هو علة الأزمة التاريخية التي تعصف بوطننا العربي على كل المستويات القومية والدفاعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. ونرى أنه لا يمكن تلمس الطريق من أجل المشروع في الخروج من هذه الأزمة قبل وضع حجر الزاوية ” في مكانه، ألا وهو : الديمقراطية .
إن الديمقراطية قبل أن تكون نمطاً من أنظمة الحكم، هي فلسفة ومفاهيم وكليات ومبادئ . إن الكلي والعام في الديمقراطية يكمن في القبول بالاختلاف، وفي شرعنة هذا الاختلاف وفي إقامة التعددية السياسية، ولكن ليست التعددية الكمية التي تفتقر إلى النوع. وفي المجتمع الديمقراطي لا بد من إقامة المجتمع المدني، حيث يمارس المواطنون حرياتهم في الاعتقاد والانتماء والقول والكتابة والتنظيم . إن كل هذه الكليات والمبادئ لا تتناقض مع أي خصوصية ثقافية أو دينية أو مذهبية أو اثنية . ومن الملفت للانتباه في هذا الصدد أن معظم النخب الحاكمة في بلدان العالم الثالث التي تسلمت السلطة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين بعد التحرر من الاستعمار والتي رفعت شعارات الكونية والأسمية والإنسانية والحرية والمساواة والديمقراطية والجماهيرية، قد غيرت من خطابها السياسي حينما أحكمت السيطرة على كل مقدرات الدولة السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية وتخلت عن شعاراتها التي رفعتها إبان استلامها للسلطة، وراحت ترفع شعارات الهوية والخصوصية الثقافية التي لا تتلاءم مع مبادئ الديمقراطية الغربية، وباسم التصدي للغزو الفكري والثقافي الآتي من الغرب، راحت تغلق الأبواب والنوافذ وترفع الأسوار حول المواطنين لزيادة تهميشهم وتجهيلهم .
في الحقيقة لم يكن هذا الانتقال في خطاب النخب الحاكمة من العالمية والكونية والانفتاح إلى الخصوصية والهوية والانغلاق إلا تبريراً للعنف والتسلط والقمع، لأجل المحافظة على الدولة الأخطبوط ( كما يقول برهان غليون في اغتيال العقل ) . لكن في الأفق بدايات تسرب من مياه نهر السياسة المحصورة خلف السدود المغلقة، هذه السدود التي بدأ يعتريها الوهن والاهتراء. ولنتأمل بإمعان تلك التحولات الهامة التي تجري بالقرب منا في إيران . في هذه الدولة التي بدت في مرحلة من المراحل، أكثر مجتمعات العالم تزمتاً وانغلاقاً، تدور الآن معركة حامية بين أنصار الماضي وأنصار المستقبل، ويحتدم السجال والجدل والنقاش، وتخرج السياسة من خلف الجدران إلى الشوارع والساحات، وراح الاختلاف يبدو للعيان، أنه مصدر قوة لإيران، وليس سببا لإضعافها . وفي هذا الإطار يقول رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، المثقف محمد خاتمي ” عبارته الانعطافية في التاريخ الإسلامي المعاصر، إبان اغتيال المتطرفين الإسلاميين لبعض الرموز من المثقفين الديمقراطيين: ” بدون الديمقراطية لن يبقى الإسلام ، في هذه العبارة القصيرة جداً، يدق محمد خاتمي ناقوس الخطر خوفاً على الإسلام من الاضمحلال، وفي أن يحاول أن ينقل الإسلام من القرن الخامس الهجري إلى القرن الواحد والعشرين الميلادي، ثم يقول في روما ومن الفاتيكان، موجهاً كلامه للغرب : ” إن الثورة الإسلامية تتطور وتتغير مثل كل الأشياء . بهذه العبارة يوجه رسالة إلى الذين يعيشون في الماضي، ليخبرهم أن جدل الحياة هو التغير والتقدم إلى الأمام والمستقبل وليس المكوث في الماضي، ومن طرف آخر يوجه رسالة إلى ” هنتنغتون وفوكوياما والذين خلفهما، ليخبرهم أن هنالك إمكانية كبرى لتفاعل الحضارات المتنوعة، وأن التاريخ لم ينته بعد.
وأخيراً نرى أنه لن يحدث التغيير في عالمنا العربي إلى الأمام، إذا لم تفتح بوابة ميدان السياسة على مصراعيها أمام المواطنين، على اختلاف مشاربهم
(هذه المقالة من الملحق الثقافي لجريدة التجمع الوطني الديمقراطي – العدد الأول – حزيران ١٩٩٩)