قبل أسابيع ، كنت فى استراحة انتظار لقاء تليفزيونى، وصادفت خبيرة مرموقة فى الشأن السودانى، سألتها بالعامية المصرية “فيه أمل يرجع السودان تانى؟ “، وكان جوابها فى كلمة “لأ” ، ولم أعقب ، فقد خاطب الجواب النافى الجازم أسوأ مخاوفى ، وفى الأسبوع الأول من الحرب الماضية اليوم فى شهرها السادس ، بدا الخطر داهما ، فهذه أول حرب تجرى فى قلب العاصمة المثلثة “الخرطوم” ، وبين الجيش وظله فى “الدعم السريع” ، وبصورة أوسع من معركة نفوذ بين الجنرالين “عبد الفتاح البرهان” و”محمد حمدان دقلو حميدتى” ، وقد آلت السيطرة على أغلب مناطق وأحياء الخرطوم لقوات الدعم السريع ، وهى جماعة متمردة ، ليس فقط على الجيش ، بل على كل شئ ينتسب بصلة لمعنى الدولة وأمان السودانيين ، ومن وراء شعارات عبث ، بدت مغرقة فى سخريتها من أى منطق عقلى ، فهى تحرق وتسرق وتنهب طلبا للديمقراطية كما تقول ، ومن دون أن تستثنى بشرا ولا حجرا ، لا البنوك ولا المستشفيات ولا الأسواق ولا الأبراج ولا المنازل ، وتبدو مدعومة من جهات إقليمية ودولية ، وإن كانت لم تنجح بقتل “البرهان” قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة مع ساعة الصفر الأولى فى 15 أبريل 2023 ، فقررت تحطيم السودان ، وإشعال النار فى هشيمه ، والتعجيل فى استصدار شهادة وفاته ، فسودان بلا جيش واحد موحد ، يعنى أنه لا سودان ولا دولة على الإطلاق .
وقد بدا الجيش فى بعض مشاهد الحرب الجارية ، كأنه ينتصر ، وبدت أغلب ولايات السودان معه ، ربما باستثناء مناطق فى “كردفان” وولايات “دارفور” ، لكن وضع الجيش فى العاصمة ظل على حاله ، مع بعض التقدم فى “أم درمان” ، إضافة لدوام سيطرته على مبانى “القيادة العامة” و”سلاح المهندسين” و”سلاح المدرعات” ، والقاعدة الجوية المهمة فى “وادى سيدنا” ، وبعض الجسور الرابطة بين أجزاء العاصمة ، لكن استعادة السيطرة على العاصمة كلها ، بدت احتمالا مستبعدا حتى اليوم ، وفى الأيام الأخيرة ، بدا أن “الدعم السريع” ـ المتمرد ـ يستعيد بعض العافية المسلحة ، خصوصا بعد قرار “البرهان” الخروج من مبنى القيادة العامة ، والذهاب إلى زيارات خارجية ، بدأت بمصر ، ثم إلى جنوب السودان وقطر واريتريا وأوغندا وتركيا ، ثم إلى الاجتماع السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة ، وهو ما قد يعطيه نصيبا أوفر فى الشرعية ، وفى التمثيل الدولى للسودان ، لكنه ـ البرهان ـ ترك من ورائه خرقا يتسع فى الخرطوم ، واختار ميناء “بورتسودان” كعاصمة مؤقتة لحكومته ، وهو ما دفع “حميدتى” ، الذى يقول بعضهم أنه مات منذ أواسط مايو الماضى ، ويصفون خروجه فى مقاطع صوتية بالزائف ، أو أنه من إنتاج تكنولوجيا “التزييف العميق” ، واستخدام حيل الذكاء الاصطناعى ، لكن الشرائط المنسوبة إلى “حميدتى” ، بدت معبرة عن أهداف القوى المحركة لقواته ، وهددت بوضوح بإقامة حكومة موازية لحكومة “البرهان” ، وأصدرت قوى الحرية والتغيير “المجلس المركزى” ، وهى المعروفة بميلها إلى قوات “حميدتى” ، أصدرت بيانا مشابها لما نسب إلى الجنرال الغائب الحاضر ، واستنكرت عزم “البرهان” على تشكيل حكومة تصريف أعمال فى “بورتسودان” ، وهو ما قد يعنى فى قابل الأيام ، أننا قد نكون بصدد حكومتين ، تتنازعان تمثيل السودان دوليا ، وفى البيئة الإقليمية المحيطة بجغرافيا السودان ، توجد أطراف مؤيدة للجيش والبرهان ، أهمها “مصر” ، ومقابل أطراف أخرى مستعدة لدعم الحكومة الموازية ، قد تكون أهمها “أثيوبيا” التى تحتضن مقر “الاتحاد الأفريقى” ، الذى لا يخفى موظفوه ضيقهم بحكومة “البرهان” ، وتأييدهم الضمنى فالظاهر لمطالبات “ويليام روتو” رئيس “كينيا” ، وبينه وبين عائلة “حميدتى” علاقات مالية مريبة ، وقد دعا “روتو” إلى إرسال قوات من شرق أفريقيا للفصل بين المتحاربين فى الخرطوم ، ووقف غارات طائرات الجيش ، والمحصلة مع ذلك كله ، أننا قد نكون بصدد إشاعة حرب أهلية أوسع فى عموم السودان المزدحم بالميليشيات والجيوش الخاصة ، حتى فى “بورتسودان” الآمنة نسبيا ، وفيها ميليشيات تابعة لحزب قبائل “البجا” الرئيسى ، وقد شهدت أخيرا بعض التحرشات العسكرية ، وشعب “البجا” يعانى من التهميش والحرمان الطويل ، تماما كقبائل وأعراق لا تحصى على خرائط التكوين السودانى المتنوع ، ومع سيولة فرص اللجوء إلى السلاح ، ومن وراء فئات مؤيدة أو كارهة لإحدى الحكومتين المحتملتين ، نخشى أن يندفع السودان إلى حروب لا تبقى ولا تذر ، وإلى ظهور عشرات الكيانات على جثة دولة السودان ، وأن تتسع الخروق على الراتقين ، وبالذات بعد فتور الاهتمام بحرب الخرطوم ودارفور الجارية ، وتوقف مساعى التوصل إلى وقف إطلاق نار ، والاكتفاء بالتفرج على عذاب السودان ، وعلى نزيف أهله الدامى ، ونزوح الملايين من سكانه ، وتوحش مذابح الموت بالجملة ، وقد لا يكون بوسع أحد فى السودان أن ينقذ دولته من التلاشى ، اللهم إلا إذا كان هناك تحرك قوى من دول فى جوار السودان ، وتحرك أقوى من مصر بالذات ، التى يتهدد أمنها الذاتى بهلاك السودان لا قدر الله ، فثمة تاريخ طويل مشترك بين الشعبين ، والسودان أهم بلد فى أبجديات الأمن الوطنى المصرى ، ليس فقط بحدود الجوار الممتدة ، ولا بروابط السكان الوثيقة ، ولا باحتضان مصر لخمسة ملايين سودانى ، يضاف إليهم مئات آلاف النازحين اليوم ، بل بروابط النيل شريان الحياة ، وقد صار النيل فى خطر غير مسبوق ، مع الآثار المهلكة المتوقعة للسد الأثيوبى ، فوق احتمالات انهياره فى أى وقت ، وهو ما يهدد بمحو جغرافيا السودان بقنبلة مائية تفوق آثارها التدميرية مئات القنابل الذرية ، وهو خطر وارد على مصر أيضا ، التى قد تكون فى أمان نسبى ، وفى حمى سد عبد الناصر العالى .
وقد تتردد مصر الرسمية فى التدخل العسكرى بالسودان ، ولاعتبارات بينها حساسيات موروثة ، أو بسبب تحريض أطراف سودانية معروفة على الدور المصرى ، سواء فى “حزب الأمة” ، أو من “كيزان” السودان ، وبينها وبين السياسة المصرية الحالية ، عناصر ثأر لا تخبو نيرانه ، وإن كان “الكيزان” ـ إخوان السودان ـ هذه المرة قد يرحبون بأى تدخل مصرى ، ربما يساعدهم فى الطفو مجددا على سطح السياسة السودانية ، وكلها اعتبارات انتهاز لفرص ، قد لا تعى أن السؤال الملح اليوم ، ليس من عينة من يحكم السودان ؟ ، بل فى مبدأ وجود السودان من هلاكه ، وفى ظل هذه الخرائط المعقدة الملتبسة ، قد يكون الأوفق ، أن تتدخل مصر لإنقاذ السودان على نحو غير مباشر ، وتقديم عون عسكرى مؤثر للجيش السودانى ، فلم يبق فى السودان من هيئة تمثل التنوع السودانى ، سوى الجيش القومى ، وقد لا يمكن إعادة بناء سلطة مركزية موحدة للسودان ، إلا بالالتفاف حول الجيش فى معركة مصير ، تقف ضد تيارات تحطيم السودان عبر تحطيم جيشه ، وهو النواة التى لا غنى عنها فى حفظ ما تبقى من دولة السودان ، وقد ظل السودان منذ استقلاله فى الأول من يناير عام 1956 ، يعانى من ضعف السلطة المركزية فيه ، وهزال تناسبها مع المساحة الشاسعة لأراضيه ، وتنوع موارده البشرية والطبيعية ، وسهولة التمرد على السلطة المركزية ، سواء فى فترات الحكم المدنى أو الحكم العسكرى ، وبما حرم السودان دائما من نعمة الاستقرار والتنمية ، وسمح بانفصال ثلث السودان فى الجنوب ، وهو ما قد يتكرر ـ لا قدر الله ـ مع الاحتراب الجارى ، ومع تفسخ النخب السياسية ، ومع تصاعد معدلات الاختراق الأجنبى ، ومع لا مبالاة ظاهرة من أغلب الدول العربية ، ومع الآثار السيئة لما يجرى فى جوار السودان الأفريقى ، حيث تتسلل عناصر الخطر عبر الحدود السائبة مع دول مضطربة فى غالبها ، وتسودها نزاعات الحروب الأهلية ، ولا يبقى للسودان من جوار آمن غير “مصر” ، التى يبذل الحكم فيها جهودا دبلوماسية ، لا نظن أن الحظ قد يحالفها ، فقد تجاوز الصدام فى السودان كل حد دبلوماسى ، ولم يعد بالإمكان الوصول إلى منطقة تفاهم فى حرب مجنونة ، وفى عالم متغير ، تتدافع فيه شرارات الحروب ، ويجرى الاحتكام فيه لحد السلاح ، وبالذات فى دول الوسط والساحل الأفريقى ، التى يعد السودان امتدادا مجاورا لها ، وفى أوقات الخطر العاصف ، كذلك الذى يخيم فى السودان ، قد لا تكون من حكمة فى الانتظار والتريث ، والاكتفاء بأن يكون السودان خبرا حزينا ، فالذين يسعون لتفكيك السودان لا يهمدون ، والذين تهمهم وحدته لا يتحركون ، ويتركون السودان معلقا على صليب موته لا قدر الله .
المصدر: القدس العربي