رغم اتفاق التطبيع الأخير بين السعودية وإيران والذي ينظر إليه على أنه قد يعيد تشكيل المشهد السياسي في الشرق الأوسط، لا تزال القضايا الأمنية الحاسمة بين الرياض وطهران دون حل، مما يلقي بظلال من الشك على استدامة العملية على المدى الطويل.
وتثير هذه المعضلات تساؤلات مثل ما إذا كان التعاون غير الأمني وحده قادراً على ضمان ديمومة التطبيع في مواجهة التحديات المستمرة في السياسات الأمنية لكلا الجانبين. ما هي التدابير والآليات التي ينبغي اتخاذها لتخفيف التوترات الأمنية التي قد تطفو على السطح مرة أخرى؟
من أجل هذا يرى الأكاديمي والكاتب عبدالرسول ديفسالار، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في المدرسة العليا للاقتصاد والعلاقات الدولية (أذري) في جامعة كاتوليكا ديل ساكرو كور في ميلانو، والباحث غير المقيم في برنامج إيران في “معهد دراسات الشرق الأوسط” أنه يجب على السعودية وإيران المضي قدمًا لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية عدم اعتداء شاملة كأساس لعلاقاتهما الأمنية المستقبلية، ووقف أي أعمال تخريب أو عدوان عسكري، وإنشاء آلية لخفض التصعيد في حالة حدوث أزمة.
الانفتاح السياسي فرصة
ويقول عبالرسول إن الانفتاح السياسي الحالي يوفر فرصة هشة وضيقة لإنشاء آليات قادرة على معالجة المخاوف الأمنية لدى الجانبين.
لهذا، يجب أن يكون التركيز على المدى القصير على صياغة قواعد سلوك جديدة من خلال منع كلا الجانبين من استخدام قدراتهما ضد الطرف الآخر بدلاً من المطالبة بنزع السلاح أو إجراء تغييرات كبيرة في الاستراتيجيات العسكرية والأمنية.
ويتطلب هذا بناء أساس قانوني جديد يمكن أن يضمن التنفيذ المتبادل على المدى الطويل للاتفاقية، وهو ما يمكن أن يتحقق باتفاقية عدم اعتداء متبادل.
اتفاقيات عدم الاعتداء
في العالم، تم توقيع ما مجموعه 137 اتفاقية عدم اعتداء بين المنافسين السابقين في جميع أنحاء العالم. لم تكن كل هذه الخطوات ناجحة، لكنها ساهمت بشكل عام في تثبيت الاستقرار في المراحل الأولى من التطبيع عندما بلغت حالة عدم الثقة ذروتها.
وتعمل مثل هذه الاتفاقيات على تسهيل الانتقال من التنافس إلى التعاون عندما لا تكون الأطراف مستعدة للاتفاق على تنازلات مكلفة سياسياً ومحفوفة بالمخاطر، مثل نزع السلاح أو الحد من الأسلحة.
وتحظر معاهدة عدم الاعتداء استخدام أي تدابير للتخريب والعدوان، في حين تسمح لكلا الجانبين بالاحتفاظ بنماذج الردع الخاصة بهما.
كبح التخريب والعدوان
يشمل مفهوم التخريب، في تلك الاتفاقيات، أي عمل يحرض أو يفاقم أو يخلق انشقاقًا داخل دولة أخرى بهدف زعزعة استقرار النظام أو الإطاحة به. وأي تدابير غير تقليدية، مثل العمليات الاستخباراتية والسرية، ووسائل الإعلام، وحملات التضليل، سيتم تضمينها في هذا التعريف – على سبيل المثال، التدخل في الشؤون الداخلية لبلد ما لأسباب أيديولوجية أو أمنية، بما في ذلك تحت مظلة “حماية الحقوق العرقية”، “أو” ضمان حرية الحقوق الدينية “.
ويعتقد الكاتب أن هذا أمر بالغ الأهمية في حالة التطبيع بين الرياض وطهران، لأن الأقليات العربية في إيران والسكان الشيعة في السعودية تعرضوا للتخريب بمفهومه السابق في الماضي تحت ذرائع مماثلة.
أما مفهوم العدوان في تلك الاتفاقيات، استخدام القوة المسلحة أو أي وسيلة عسكرية من قبل دولة أو مجموعة من الدول أو جماعة مسلحة ترعاها الدولة ضد سيادة دولة أخرى واستقلالها السياسي وسلامة أراضيها.
ويجب أن يشمل الحظر أيضًا استخدام الوسائل العسكرية غير العنيفة والعمليات المختلطة، كما ينبغي التوقف عن استخدام الوكلاء المدعومين من الدولة، بما في ذلك أي عضو في شبكة “محور المقاومة” الإيرانية، والعمليات السرية كوسيلة للعمل تحت عتبة الصراع المسلح.
إن اتفاقية عدم الاعتداء لن تتطلب مراجعة سياسات المساعدة الأمنية الإقليمية، ولكنها ستحظر استخدام هذه الأصول ضد الجانب الآخر، كما يقول الكاتب.
واقعيا، فإن ميثاق عدم الاعتداء ليس تحالفًا دفاعيًا أو هجوميًا أو استشاريًا ولا يتطلب التعاون في حالة الصراع. كما أنها ليست معاهدة لنزع السلاح تسعى إلى تقليص قدرات معينة في ترسانات الأطراف، سواء التقليدية أو غير المتماثلة.
ولن يؤدي الاتفاق إلا إلى الحد من استخدام الوسائل العسكرية والأمنية لحل النزاعات واكتساب النفوذ السياسي.
ومن شأنه أن يضيف التزامًا قانونيًا باتفاق سياسي قائم بين السعودية وإيران، مما يجعل العودة إلى هذا النوع من الأعمال العدائية التي نفذتها الدولتان بين عامي 2016 و2021 مكلفة.
ما الذي يجعل اتفاقية عدم الاعتداء مهمة الآن؟
يعدد الكاتب عددا من الأسباب في هذا الإطار، جاءت على النحو التالي:
أولا: يمكن أن تكون اتفاقية عدم الاعتداء وسيلة لتعزيز البعد السياسي والأمني للتطبيع، والذي من المرجح أن يظل محور التركيز الرئيسي في الوقت الحالي.
ثانياً: يشكل اتفاق عدم الاعتداء حلاً للافتقار إلى الأسس القانونية والمؤسسية المناسبة للتطبيع.
إن الوضع القانوني وتنفيذ الاتفاقية العامة للتعاون بين السعودية وإيران الموقعة في عام 1998 واتفاقية التعاون الأمني اللاحقة الموقعة في عام 2001، والتي يشار إليها كأساس للتقارب الأخير، غير مؤكدين.
وحتى لو بدأ تنفيذ هذه الاتفاقيات السابقة بالكامل، فإن نطاق أي من الاتفاقيتين لا يغطي نوع المشاكل الأمنية التي شهدتها الدولتان في العقود الأخيرة.
على سبيل المثال، يقتصر نطاق الاتفاقية الأمنية لعام 2001 على التعاون في مكافحة الإرهاب، والجريمة المنظمة، والتهريب، والجرائم الاجتماعية.
وعلى النقيض من ذلك، فإن العسكرة غير المسبوقة للعلاقات والتهديدات الأمنية الصعبة هي في قلب التوترات الأخيرة.
ثالثا: من شأن اتفاقية عدم الاعتداء أن تساعد في تقليل الآثار السلبية للتوترات بين الولايات المتحدة وإيران والولايات المتحدة وإسرائيل على التطبيع السعودي الإيراني، لكن الأمر يتوقف على الدور الذي قد تلعبه السعودية في حالة اندلاع حرب بين الولايات المتحدة وإيران أو بين إسرائيل وإيران.
وفي الحالة الأولى، قد تفتح السعودية أجواءها وأصولها الحيوية العسكرية والأمنية أمام الولايات المتحدة للاستخدام، وهو ما قد يجعل إيران تشن ضربات انتقامية ضد المملكة.
وبالتالي، فإن فصل التوترات بين الولايات المتحدة وإيران وإيران وإسرائيل عن العلاقات السعودية الإيرانية لا يزال يمثل تحديًا خطيرًا للرياض وطهران – وهو تحدي ينطوي على إمكانية خلق توترات دبلوماسية وعسكرية جديدة مع الحد من العلاقات الاقتصادية أيضًا.
رابعا: توفر الاتفاقية فرصة للحد من تشكيل تهديدات جديدة عندما يظل الردع هو السمة الأساسية للاستراتيجيات الأمنية لكلا الجانبين.
والواقع أن الاستمراريات في الاستراتيجيات الأمنية والعسكرية في كل من البلدين أكثر من التغيرات.
وما زال الجانبان يعتقدان أن السلام الدائم في المنطقة يتطلب قدرات عسكرية قوية، لا سيما إيران التي ترى نفسها قريبة من صنع سلاح نووي، وبرنامجها الصاروخي يتقدم بوتيرة ثابتة.
ومن غير المرجح أن تتأثر أي من القدرات العسكرية الأساسية لإيران بالتطبيع مع السعودية، لأنها ببساطة، من وجهة النظر الإيرانية، تستهدف الولايات المتحدة وإسرائيل، وليس السعودية.
وفي الوقت نفسه، تعمل المملكة أيضًا على بناء قدراتها العسكرية بوتيرة مماثلة كما كانت من قبل.
ويمضي التعاون العسكري الأمريكي السعودي قدماً، بما في ذلك بناء أنظمة دفاع جوي متكاملة وبرامج طائرات بدون طيار.
وبينما تتطلع الرياض إلى بكين وموسكو لتنويع شركائها الدفاعيين، كشفت المناقشات الأمريكية السعودية الأخيرة حول التطبيع مع إسرائيل أن السعوديين ينظرون إلى التعاون العسكري الأقوى مع الولايات المتحدة باعتباره جزءًا مهمًا من الردع المستقبلي.
إن سعي الرياض للحصول على قدرات هجومية بعيدة المدى من خلال الصواريخ والطائرات بدون طيار والطائرات المقاتلة الجديدة ليس له هدف محتمل آخر في المنطقة باستثناء إيران، كما يقول الكاتب.
كيف يتم تنفيذ الاتفاقية؟
يتطلب التنفيذ السليم لاتفاقية عدم الاعتداء، كما يقول الكاتب، التشاور الأمني المستمر، وتبادل المعلومات، والتواصل المباشر بين القطاعين العسكري والأمني في الجانبين، والشفافية حول الجوانب الصعبة للسياسة الأمنية.
وفي 16 أغسطس/أب الماضي، التقى عزيز ناصر زاده، نائب رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، مع طلال العتيبي، مساعد وزير الدفاع السعودي، على هامش مؤتمر موسكو الحادي عشر للأمن الدولي.
وكما يوضح هذا الاجتماع، فإن إجراء محادثات عسكرية مباشرة بين الخصمين ليس فكرة بعيدة المنال.
ويرى الكاتب أن إحدى الخطوات الرئيسية في هذه العملية هي الإخطار المسبق وتبادل المعلومات حول دوافع ونوايا الطرف الآخر للقيام بأعمال وتحركات عسكرية محددة، خاصة في الخليج العربي والمناطق المتنازع عليها الأخرى.
إن التواصل المباشر بين طهران والرياض بشأن مثل هذه التحركات عبر الخليج، وفي اليمن، وفي مناطق الصراع الحساسة الأخرى يمكن أن يوضح النوايا، ويتجنب سوء التقدير والتصعيد غير المقصود، ويوفر تطمينات للجانب الآخر.
ورغم أنه من غير الواقعي أن نتوقع من أي من الجانبين إصلاح استراتيجيته العسكرية، أو وقف الاستعدادات العسكرية، أو إنهاء الالتزامات الدولية، فإن البلدين قادران على تخفيف تصورات التهديد والحد من مخاطر الرد العدواني من الجانب الآخر من خلال إنشاء آليات الإخطار المسبق والإحاطة.
المصدر | عبدالرسول ديفسالار / معهد دراسات الشرق الأوسط – ترجمة وتحرير الخليج الجديد