منذ البداية أطلقت الثورة في سوريا صراعاً حول رواية ما يجري، شاركت فيه برامج من الدرجة الثالثة أذاعتها قنوات النظام بغزارة. فمن طبائع الأشياء أن يسهم الإعلام في أي صراع، ومن المعتاد أن تنحط وسائل بث متحاربة إلى هذه الدرجة أو تلك من اختلاق السرديات المؤيدة لمواقفها. لكن الغريب أن تكون هذه سمة مذكرات دبلوماسي دولة إقليمية كبيرة ومؤثرة في المشهد السوري، كما هي حال كتاب «صبح الشام»، الذي صدر بالفارسية في عام 2020، وبالعربية عن دار «المحجة البيضاء» ببيروت قبل أشهر. بعنوانين فرعيين: «رواية عن الأزمة السورية؛ مذكرات الدكتور حسين أمير عبداللهيان»، معاون وزير الخارجية الإيراني لشؤون البلاد العربية والإفريقية بين عامي 2011 و2016، الذي صار وزير خارجية منذ سنتين.
يرصد المؤلف حكاية الاحتجاجات من تونس كما هي بدايتها المعروفة، لكنه يرى ما يريد بدءاً من الخطوة الثانية. فيرفض تسمية «الربيع العربي» الشهيرة، مؤكداً أن ما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وقتئذ هو «صحوة إسلامية» بتعبير المرشد الحالي علي خامنئي، استلهمت أفكار المرشد المؤسس آية الله الخميني والثورة التي حرّكها في إيران عام 1979. وبعد مظالم طويلة متراكمة في البلاد العربية اندفعت الجماهير إلى الشوارع وطالبت بإسقاط «الحكومات العائلية والملكية والرئاسات اللانهائية».
السياق معقول حتى الآن، لكن المسؤول الإيراني يسارع إلى استثناء سوريا منه على الشكل الآتي: فحين لاحظت أميركا وإسرائيل والسعودية، وهي دول تبدو ذات سياسات شبه متطابقة في الكتاب، قوة هذه الموجة من الأفكار الخمينية وانتقالها السريع اللافت عبر الحدود، قررت ضرب «محور المقاومة» للقضاء عليها. ولما كان الهجوم على الحصن المنيع لهذا المحور، أي إيران، أمراً يفوق استطاعتهم على تحمل تبعاته، فقد لجؤوا إلى قطع أحد «أذرعها التنفيذية» في البداية، بالحرب على حركة «حماس» في غزة في تشرين الثاني 2012. لكن إسرائيل خرجت مهزومة، كالعادة، من تلك المعركة.
فاجتمع الحلفاء ودرسوا أسباب هذه الخسارة فوجدوا أن منها وجود سوريا في الجبهة الخلفية تمد خطوط المقاومة. ورأوا أن الفرصة مواتية لتغيير نظام الحكم في هذا البلد وركوب موجة الثورات في سياق الربيع العربي، فقد كانوا «يعتقدون أن مؤشرات الديمقراطية في سوريا ليست قوية»، وأرادوا استغلال أن «عائلة الأسد قد أمسكت بالسلطة منذ مدة طويلة»، على الرغم من أن سوريا تشهد انتخابات برلمانية ورئاسية حتى في أصعب الظروف، بحسب الوزير الإيراني الذي يتجاهل تنظيم الديكتاتوريات كلها لانتخابات مزورة.
ما حدث بعد ذلك هو أن دول الحلف الثلاث، ودائرة أوسع في الغرب والخليج، قررت إسقاط حكم بشار الأسد لإقفال طريق إرسال المساعدات اللوجستية. ووفق السياق الذي يشرحه عبداللهيان يُفترض أن ذلك تم في نهايات 2012، بعد انتهاء الحرب على غزة بالفشل.
لكن وزير خارجية الملالي ينتبه إلى أنه ترك ما يكاد يبلغ سنتين من تاريخ الثورة السورية، فيسارع إلى التأكيد على أن «مجموعات أجنبية مسلحة» دخلت إلى درعا بعد أيام قليلة من اندلاع الاحتجاجات الشعبية فيها. فقد روى شهود عيان للمسؤولين الإيرانيين كيف بدأت الاشتباكات في سوريا من أحد مساجد مدينة درعا، في أثناء صلاة الجمعة، عندما اختبأ اثنان من «الإرهابيين الأجانب» في المئذنة وأخذا بإطلاق النار بغزارة على المصلين. مما يفترض أن ذلك حصل في آذار 2011، من دون تغطية سردية من «مؤامرة خارجية» لم تكن قد بدأت بعد، وفق الوزير الذي لا يوضح لنا ماذا جرى في البلاد طوال مدة ما يقارب السنتين.
والحق أن السياحة الحرة بين التواريخ سمة عامة في الكتاب، كما هي حال كل المدافعين الخارجيين عن النظام. فعندما كان يشرح سبب اختيار إسرائيل لتوقيت الحرب على غزة، في تشرين الثاني 2012، قال إنها استغلت أن جزءاً كبيراً من شباب «حزب الله» اللبناني كانوا قد دخلوا إلى سوريا وانشغلوا بقتال داعش. ومن المعروف أن هذا التنظيم لم يولد قبل نيسان 2013، كما أن «الحرب الإرهابية الكونية» لم تكن قد بدأت بحسب الوزير!
لداعش قصة أخرى بالغة الطرافة في كتاب الأستاذ الجامعي الإيراني الذي أصبح رئيساً لديبلوماسية بلاده. فعندما اجتمعت الدول المتآمرة الثلاث، المشار إليها أعلاه، قرروا صناعة هذا التنظيم لإسقاط النظام السوري وزعزعة الاستقرار في العراق ولبنان. ودليلاً على عمالة التنظيم للغرب ينقل الكتاب، بكل جدية، ما يقول إنه نص مذكرة دبلوماسية رسمية أرسلتها داعش للسفارات الأجنبية في بغداد، عقب استيلائها على الموصل. وفيها يتعهد التنظيم بعدم التعرض لهذه السفارات في حال سيطرته على العاصمة العراقية، شريطة أن تبلغ دولها «أن داعش مجموعة تحررية تحاول تحرير أهل السنّة في العراق من التسلط الشيعي»، وأنها، بعد انتهاء مهمتها هذه، ستترك العراق، دون تحديد المكان الذي قد تغادر إليه هذه المجموعة التحررية العجيبة!
على كل حال فإن تاريخ ذروة «الأزمة» ثابت عند الوزير الإيراني. ففي خريف 2013، «تحت ذريعة استخدام الحكومة السورية للسلاح الكيميائي» على غوطة دمشق، أعلنت الولايات المتحدة عن نيتها في ضرب النظام لتجاوزه الخط الأحمر الذي وضعه الرئيس الأميركي وقتئذ باراك أوباما. وأوعزت إلى داعش والإرهابيين بالتسلل إلى دمشق في الوقت نفسه، عبر أنفاق توصل إلى العاصمة جرى تمويل حفرها بمئتي دولار للمتر المربع، ومئة يورو يومياً للمقاتل من داعش، كما يقول عبداللهيان الذي لا يتورع عن إلحاق مخطط أعدّه مركز بحثي عن المجموعات المسلحة في سوريا على أنه «وثيقة» تثبت الصلات بينها جميعاً، فقط لأنها مجدولة في ورقة واحدة.
وعن التدخل الإيراني ثمة روايتان في الكتاب أيضاً. تقول إحداهما إن قائد «قوة القدس»، اللواء قاسم سليماني، لعب دوراً استشارياً للنظام السوري منذ أحداث درعا. وتتحدث الثانية عن طلب النظام دعم المستشارين العسكريين الإيرانيين، وتدخل «المدافعين عن حرم أهل البيت» في خريف 2012 عندما أصبحت الأوضاع صعبة في دمشق. وبينما حافظ الأولون، الإيرانيون، على دورهم الاستشاري المفترض على طول صفحات الكتاب؛ فإن القادمين بدافع حماية مرقد السيدة زينب وسواها، من «الشباب المتحمسين»، وجدوا أنفسهم «غير قادرين على السكوت واللامبالاة إزاء ما يجري في أماكن أخرى»، فانتشروا في البلاد وأكثروا فيها القتل والفساد. هكذا ببساطة! أما ما يطلبه المؤلف من السوريين، الذين يقرّ بأنه كانت لديهم «ملاحظات» على نظامهم السياسي، فهو الصبر والحكمة والمعارضة السياسية السلمية من داخل البلد.
يجدر بنا التوقف عن استعراض هذا اللغو والبحث عن أسبابه. ففي خلفية الكتاب وثناياه يحضر طيف سليماني، الرجل الأول في الأذرع الإيرانية في المنطقة و«البطل الأممي في مكافحة الإرهاب» وفق المؤلف، وهو الذي اقترح عليه تدوين مذكراته. ومن المعروف أن أحد أبرز أدوار سليماني كان تزويد الجبهات في سوريا بمجموعات المقاتلين. ومن جهته يبدو عبداللهيان متأثراً بسليماني بشدة منذ أن تعرّف إليه على درج وزارة الخارجية وشجّعه الأخير على المثابرة على التحليلات التي كان يدلي بها إلى التلفزيون والإذاعة. والأرجح أن هذا النمط من العلاقة ومن «التفكير» ظل فاعلاً حتى الآن. فما قدّمه الديبلوماسي لا يعلو على أي بروباغندا يمكن لدعاية سليماني أن تحشو بها دماغ أي متطوع أفغاني لم يقرأ كتاباً في حياته.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا