منذ بدأت قرى السويداء في جنوب سورية تستخرجُ من صمتها السياسي المديد تظاهراتٍ مسائية كالتي اهتدت إليها باكراً الثورةُ السورية ضد بشّار الأسد، وجد النظام القائم نفسه مجبراً على تخصيب دلالاتٍ سياسية يُنكر من خلالها الانتفاضة الجديدة ضدّه، وهو الماهرُ في “شيطنة” مسلك أيّ حراك مدني مناوئ له، ليس الآن فحسب، وإنما بصورة ممنهجة منذ العام 2011 على الأقل.
لم يعد التظاهر حكراً على قلّةٍ من المعارضة السياسية، تجيدُ التخفّي ومراوغة الأجهزة الأمنية، ولا على المتظاهرين الذين اعتادوا الاعتصام داخل ساحة الكرامة في قلب المدينة، وإنما باتت انتفاضة السويداء الحالية انتفاضةُ الريف أيضاً، بتوقيتها المسائي، وفي أكثر من عشر نقاطٍ يمكن وصفها بنقاط تظاهرٍ نشطة بصورة يومية اعتباراً من منتصف الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، حين توافدت آراء الناس، والتقت حول فكرة التظاهر والعصيان المدني كأدوات عمل سياسي قد تتيح طرد نظام الأسد من الفضاء الاجتماعي لسكان المحافظة البعيدة، والتي تستلقي قرب الحدود الأردنية، وتبعد عن العاصمة دمشق نحو مائة كيلو متر إلى جهة الجنوب.
حدث هذا الطرد فعلاً، وبصورة تدريجية خلال النصف الثاني من الشهر الماضي، بعدما اهتدى المتظاهرون إلى المنافع الرمزيّة المتأتّية من إغلاق مقرّ فرع حزب البعث في المدينة، وعددٍ من الفرق الحزبية في ريف السويداء. وبهذا نجدهم قد نالوا من أحد أشكال تمظهُر سلطة النظام، وتجسّدها المادي داخل مقرّاتٍ خرساءَ لحزبٍ لم يعد قادراً على النطق، أو على إقناع أحدٍ بالجدوى من وجوده. ثم عاد المنتفضون ونالوا من صور بشّار الأسد ووالده، بتمزيقها أو إحراقها، وكأنهم بذلك يزاولون فعلاً تطهيريّاً لا رجعة فيه، ولا عن دلالاته، إذ لطالما اعتدَت تلك المجسّمات لديكتاتورية آل الأسد على الحيّزين، النفسي والبصري، للسوريين، صورٌ وتماثيلُ كثيرة تنتصب باستعلاء في الساحات العامة وداخل الدوائر الرسمية، وكأنها تُعيد تعيين حدود ملكية تلك العائلة للبلاد. أما بعد إتلاف أكثرها، سواء داخل مدينة السويداء أو في ريفها الواسع، فإن إعادة الاعتبار لوزن المجتمع داخل الفضاء السياسي بغرض إعادة تشكيله مجدّداً بات أمراً قائماً أكثر من أيّ وقت مضى، وما شجّع على تثمير محصول الحراك الاجتماعي الحالي في السويداء هو عدم قمعه من جيش النظام أو أجهزته الأمنية، الأمر الذي أضاف إلى ساحات التظاهر مزيداً من المحتجّين، الذين كانوا متردّدين بادئ الأمر في منح أصواتهم إلى خيار الانتفاضة ضد سلطة النظام القائم.
كان لزاماً على بشّار الأسد ونظامه أن يردّا على تظاهرات السويداء، وما رافقها من ازدهارٍ لمظاهر طرد السلطة القائمة، ولأنهما يبرعان في تدبيج سياسة إنكار الواقع، وجدا أن الإيحاء بمشروع انفصال الجنوب السوري قد يفي بالغرض، ثم أردفاه بإيحاءاتٍ بلغت درجة الدعاية السياسية المباشرة بأن تظاهرات السويداء تحرّكٌ مأجورٌ ومرتهنٌ إلى الخارج، لا بل قالت تلك الدعاية، وعلى ألسنة عديدين من مُروّجيها، إن الدروز عملاء، يريدون دولةً لهم في الجنوب، وقد باشروا حراكهم الراهن لأجل ذاك الغرض.
أيضاً، وفي الواقع، وجد نظام بشّار الأسد نفسه متطوّعاً لأجل تعزيز فكرة عزل الجنوب عن باقي سورية، والإيحاء الماكر بأن السويداء تريد حكماً ذاتياً من افتعالها الاحتجاجات، فسكت مُجبراً على كل المهانة التي حقّرت شخص بشّار بصورةٍ يومية، حين طاردته عبر شعارات احتجاجية حملتها لافتاتٌ كثيرة، أو نطقتها هتافاتٌ كثيرة أيضاً. وإلى جوار صمت النظام ذاك، وجدنا كيف أنه كان قد أخلى بعض النقاط العسكرية جنوبي المحافظة في الأسبوع الثاني من التظاهرات، وطلب من أجهزته الأمنية عدم قمع مظاهر الاحتجاج، أو الحدّ منها، أو كبح تدفّقها مهما بلغ نفوذها وجرأتها، أو علا سقفُها المطلبيّ. غير أنه وفي آن لم يمنع نفسه من إرسال وساطاتٍ تشبه التداوي بوصفات عطّارٍ عَكِرْ المزاج، حملها موفدون منه إلى شيخ عقل الموحدين الدروز حكمت الهجري، الداعم حراك أبناء السويداء منذ بدأ، وتلك كانت وساطات بلا قيمة سياسية تُذكر، هي فقط لأجل تغذية دعايته السياسية ضد انتفاضة السويداء بمزيد من العناصر الخبيثة، قد يقول من خلالها “نحن نمدّ أيدينا إليهم، لكنهم في المقابل لا يفعلون”.
يصعبُ على بشّار الأسد ونظامه إيجاد تدابيرَ ناجعة تُعين على تكميم أفواه المتظاهرين جنوبي البلاد، أو حتى مقايضة شعارات حراكهم ذات السقف المرتفع بمجرّد إصلاحاتٍ حكوميةٍ مائعة، مستهترة بأصل العلّة، تزيد فقط من ازدراء الناس هذه السياسة. صحيحٌ أن أعداد المتظاهرين في ساحة الكرامة وسط المدينة أخذ بالتراجع التدريجي منذ منتصف الأسبوع الثاني من عمر هذه الاحتجاجات، لكن الوقفات الاحتجاجية المتواصلة مساءً في الريف سندت كثيراً هذا التراجع، وسترت عليه، من دون أن يُنبِتَ هذا الحراك، بمساحته المتّسعة بين المدينة والريف، أيَّ شعاراتٍ أو هتافاتٍ تناصر فكرة الدولة الدرزية، أو انفصال الجنوب وانتزاع إدارة ذاتية له من نظام دمشق المركزي، وربما هذا ما أحرج مبادرةً سابقةً للحراك كانت تتجهّز لعقد مؤتمر “القوى السياسية المدنية السورية في السويداء”، ومنه كانت ستعلن أن اللامركزية باتت ضرورةً لا تقبل الجدل لأجل إدارة الشأن المحلي، خصوصا في الجانبين الاقتصادي والأمني. ولكن وبعد بدء الانتفاضة الحالية، اضطرّت اللجنة التحضيرية لهذا المؤتمر لأن تعدّل عدّة مراتٍ على صيغة الوثيقة التأسيسية لمؤتمرها ذاك، بحيث وصلت بها إلى ديباجةٍ تورّطت بالجمع بين اقتراحاتٍ سياسيةٍ لا تقبل الجمع أصلاً، مثل التمسّك بالحلّ السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254 ، مع الرغبة بإسقاط النظام القائم ورئيسه، أو التمسّك بسورية الواحدة ذات القرار والمصير الواحد، مع ضرورة الانتقال إلى إدارة الشأن المحلي بصورة ذاتية. ومع تلك الصيغة النهائية للوثيقة، كانت المكوّنات السياسية لها، ومن بينها “تجمّع بدنا وطن”، والجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) وحزب الاتحاد الاشتراكي، تحاول أن تدرأ تهمة الرغبة بالانفصال عن الوطن الأم، مع أن الإيحاءات الدولية الجادّة، خصوصا الأميركية، تغمز إلى اقتراب حدوث ذلك، وإنْ راقبنا السلوك السياسي لنظام دمشق فسنجد كيف أنه صار شريكاً بالفعل في ترتيبات الانتقال إلى مزيدٍ من فصل الأطراف عن المركز، وتثبيت سورية المقسّمة إلى فيدراليات، والتي قد يكون جنوبها، أي السويداء ودرعا والقنيطرة، إحداها، وهذا الذي سيقع فوق رؤوس الجميع، من دون أن يكون بمقدور أحد منعه، أو الاحتماء منه.
المصدر: العربي الجديد