ذهب شكيب أرسلان عام ١٩٢٢إلى لوزان للقاء عصمت إنونو، والطلبِ منه عدم تخلي تركيا عن المناطق العربية، وتركها لمصيرها مع تبعات سايكس بيكو ١٩١٦ وتبعات اتفاقية سان ريمو ١٩٢٠، لكنّ النتيجةَ النهائية كانت تركَ العرب فريسةً لأطماع المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وعدمَ حصدِهم لأي مكاسب بعد معركة الانتصار العثماني في جناق قلعة ١٩١٦ أو معركة التحرير الداخلي ١٩١٩-١٩٢٢ اللتين شاركوا بهما تحت راية الإسلام. ربما كسبت تركيا أراضيَ لم يكنِ الحلفاء ليتخلوا عنها؛ لولا هزيمتهم في تلك المعركتين، لكنهم أنهوا ثلاثة أمورٍ ظنها عصمت إنونو والقوميين الأتراك أقل شأناً، لكن ثبت للجميع أنها أعظم من مكاسب الأرض وبناء تركيا بحدودها الحالية، أولها: سقوط راية الخلافة الذي ظل خفاقاً منذ ظهور الرسالة المحمدية، وثانيها: قطع علاقة العرب مع الترك ومع الأكراد وكافة شعوب العالم الإسلامي إلى غير رجعة، وثالثها: إفقار الشعوب الإسلامية، وتهميش سيطرتهم على ثرواتهم وقرارهم السياسي إلى أجل ليس بقريب! لم يكن تدويل إسطنبول وممراتها المائية ذا شأن جلل بالنسبة للحلفاء، فقد أثبتت الأيام أنهم قادرون على فرض إرادتهم عليها ولو كانت خارج سيطرتهم المباشرة، لذلك تخلوا عنها بعد اتفاقية لوزان بسنوات عام ١٩٣٦ خوفاً من وقوعها تحت يد هتلر بطريقة ما!
شعوب المنطقة اليوم ربما تعيش أياماً مشابهة؛ ففي حين شهد العالمُ عصر العولمة والقطبية الواحدة بعد عصر صراع الأيديولوجيا والهويات القومية، فإن الجميع يعودون اليوم إلى عصر البحث عن الهوية وإطلاق مفهوم جديد-قديم يسمى القوميات الاقتصادية مع صعود ترامب ومتابعة بايدن لسياسته التي قطعت سلسلة متصلة من سياسات أسلافه الممتدة منذ عهد رولاند ريغان، لكنه خلال كلِّ تلك الفتراتِ التي شهدت انعطافات إستراتيجيةً هائلةً ظلت الشعوب الإسلامية أسيرة اللاءات الثلاث؛ وعليها جرى ويجري ذبحُ وتقطيعُ أوصال الأمة و إحداثُ تغييرات ديمغرافية هائلة مازالت مستمرة إلى يومنا هذا ولا نرى خلالها مخرجاً قريباً. لم ينجحْ عقلاءُ جميع الشعوب المنضوية تحت راية الأمة الواحدة التي وصفها رب العزة بقوله: إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الانبياء-92) في عكس الصورة أو بناء مشروع يحطم تلك اللاءاتِ الثلاث.
ربما نجح عصمت إنونو في إلغاء امتيازات الغرب في تركيا، لكنه كرس تلك الامتيازات في كل بقاع العالم الإسلامي، وأفقر الجميع وعلى رأسهم تركيا التي ظلت تدفع الديون إلى عهد تركت أوزال رحمه الله! لكن السؤال المصيري هل يمكن أن تظهر كياناتٌ سياسية في تركيا أو خارجها تطالب بعكس اللاءات الثلاث ؟ ربما نجحتِ الإرادة القومية التركية بينما فشلت الإرادة القومية العربية؛ لأن عدوك لايعطيك أشياء مجانية دون معركةِ تحررٍ حقيقية لها أثمانُها الباهظة، فيما يبقى المشروع الإسلامي أسيرَ الصراع السني- الشيعي إلى أجل بعيد، أما معركة بناء الدول على أساس المواطنة، فدائماً يغيب عنها الإرادة الحقيقية للتخلص من ذهنية الهرمية القبلية والعصبية العرقية التي كرستها اللاءات الثلاث ببراعة منقطعة النظير.
بوصلةُ التفكير ربما عليها تمييز الجوهر من العرض وإلا لن يخرجنا من التيه، لا آيات العذاب ولا امتهان الكرامة البشرية الذي أصبح ديدن العالقين في دوامات اللاءات الثلاث.