كشفت المواجهة المسلحة بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ومجلس ديرالزور العسكري ومشاركة عشائر عربية في القتال إلى جانب المجلس، ما سمي بـ “الفزعة” العشائرية، عن معطيين بارزين: الأول، أن سبب الصراع المباشر خلاف على حصص التهريب واستياء قيادة “قسد” من الدور الذي يلعبه رئيس مجلس دير الزور العسكري، أحمد الخبيل، حيث باتت للأخير شبكته الخاصة وعلاقاته الزبائنية مع القوى النافذة والمليشيات الإيرانية والروسية ومع المهرّبين والتجار على الضفة الأخرى للنهر، وثانيها عدم ارتباط “الفزعة” العشائرية باعتقال الخبيل وإقالته، حيث بين مشيخة العشائر والأخير ما صنع الحدّاد. هاجم الخبيل مشيخة العقيدات من بيت الهفل، سمّاهم بأسمائهم ووصفهم بأقذع الأوصاف، على خلفية معارضتهم هيمنته وتسلطه على رقاب المواطنين؛ وقد تحدّث المشايخ، خلال انفجار الأزمة، عن علاقات الخبيل بالنظام السوري وعقده اجتماعاتٍ مع أجهزة مخابرات النظام في مدينة دير الزور. فـ”الفزعة” العشائرية اهتبال فرصة للتعبير عن احتقان عميق من سياسات “قسد” في المنطقة، وتعاملها غير اللائق مع مواطنيها، حيث لم تكتف بتجاهل مصالح العشائر العربية في شرق الفرات، بل وزادت بوضع كردٍ أتراك وإيرانيين لا يجيدون العربية في مواقع إدارة المنطقة والإشراف على شؤونها، لعبت تصرّفاتهم الصلفة والفجّة دورا منفّرا، واستحواذها على خيراتها من النفط والغاز في حين لا تنال المنطقة إلا الفتات.
انفجر الصراع في لحظة دقيقة وحسّاسة، حيث التوترات السياسية والعسكرية تغطّي المنطقة، إن بين القوات الأميركية والروسية، كما جسّدتها التحرّشات المتبادلة في سماء سورية وقصف طائرات روسية محيط قاعدة التنف أكثر من مرّة، أو التحرّكات العسكرية الأميركية بين العراق وسورية وربطها بخطّة أميركية للسيطرة على الحدود بين البلدين لقطع الطريق على القوات والمليشيات الإيرانية لنقل الأسلحة والمقاتلين إلى سورية وحزب الله، أو التنسيق والتحضير الإيراني الروسي للضغط على القوات الأميركية في منطقة شرق الفرات، عبر تشكيل مجموعات من أبناء المنطقة وتدريبهم وتسليحهم واستخدامهم في مهاجمة دوريّاتها وقواعدها ودفعها إلى الانسحاب، اتخذ التنسيق العسكري بين روسيا وإيران منحىً تصاعدياً، حيث قدّمت إيران طائراتٍ مسيّرة لروسيا في سورية من نوع قاصف1 وأبابيل، وباعت روسيا لإيران طائرات ياك 130 تمهيدا لبيعها طائرات سوخوي 35، أو الحشد البحري الأميركي لحاملة طائرات ومدمّرات وسفن مسيرة وثلاثة آلاف جندي من المارينز في الخليج العربي وإرسال أسراب طائرات أف 22 رابتور وأف 35 الشبحية إلى الشرق الأوسط.
تحرّك النظام السوري وإيران وروسيا وتركيا للتأثير على مجريات الصراع وعمل كل منها على دفعه نحو تحقيق أهدافها الخاصة، إنْ عبر الضخّ الإعلامي وتأليب العرب على الكرد، إعلام النظام وإيران وروسيا يتحدّث عن السيطرة الكردية على العرب، والإعلام التركي والمؤيد لتركيا يتحدّث عن انتفاضة وثورة ضد “قسد” التي تضطهد العرب وتفتئت على حقوقهم، أو تحريك قواتٍ من الجيش الوطني السوري المعارض، تحت غطاء “الفزعة” العشائرية، باعتبار أفراد هذه القوات من أبناء العشائر العربية، لمهاجمة مواقع “قسد” في أرياف الحسكة والرقّة وحلب لتخفيف الضغط على قوات المجلس والعشائر العربية.
تشير المعطيات الميدانية والسياسية إلى استمرار القتال بين “قسد” والمجلس والعشائر العربية فترة قد تطول وتتوسّع، في ضوء استثمار القوى المذكورة في الصراع، ودفعه إلى التصعيد والتمدّد واستخدام تحوّلاته في المساومة في ملفات سياسية عالقة بين هذه القوى، فالنظام السوري يعمل على استثمار المعارك والحملات الإعلامية الصاخبة للتغطية على التظاهرات والاعتصامات في محافظتي السويداء ودرعا، احتجاجا على تردّي أوضاع المواطنين المعيشية والخدمية، والمطالبة بتغيير سياسي شامل عبر تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، واحتواء تململ حاضنته الشعبية في الساحل وتبرير تأجيل الاستجابة لمطالبها في تحسين ظروف المعيشة بحل مشكلات زيادة الدخل وتوفير فرص عمل ولجم الغلاء وتوفير الكهرباء والماء والمواصلات بأولوية مواجهة “الإرهاب”، “فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
تسعى إيران إلى رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية عنها وتحرير أموالها المجمّدة في بنوك الدول المستوردة لنفطها وغازها، وإخراج القوات الأميركية من المنطقة، والدفع نحو عرقلة السعي الأميركي إلى تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية. وتسعى روسيا إلى الضغط على القوات الأميركية على الأرض السورية، عبر مناوشتها وتأليب أبناء المنطقة عليها، للبرهنة على أن انخراطها في القتال في أوكرانيا لم يُضعف قواها، لدفع الولايات المتحدة إلى تخفيف دعمها أوكرانيا ودفعها إلى القبول بتسوية سياسية بشروط مواتية ومقبولة روسيا، والتنسيق مع الصين على محاصرة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط عبر الانخراط في قضاياه السياسية والاقتصادية. في حين تحاول تركيا، عبر قوات الجيش الوطني السوري، التمدّد على حساب “قسد” وإخراجها من غرب الفرات، ريف حلب، وتوسيع مساحة سيطرتها شرقه في ريفي الرّقة والحسكة. وقد زاد هذا تعقيد الموقف وخطورته في ضوء تداخل مواقع النفوذ والسيطرة العسكرية، فمنبج، التي نجح الجيش الوطني السوري في السيطرة على بعض قراها وعلى مساحات في محيطها، جزء من النفوذ الروسي، وتنتشر فيها قوات للنظام السوري جنبا إلى جنب مع قوات “قسد”، ما دفع القوات الروسية إلى قصف المواقع التي دخلها الجيش الوطني في عرب حسن كبير ومزرعة عرب حسن والمحمودية في منطقة منبج والبوهيج والمحسنلي قرب جرابلس جوّا وبرّا. كما تنتشر قوات النظام جنبا إلى جنب مع قوات “قسد” في ريف الحسكة، خصوصا وخطوط التماسّ بين قوات النظام السوري والقوات الروسية من جهة وقوات المعارضة الموالية لتركيا وهيئة تحرير الشام من جهة ثانية في إدلب، مشتعلة منذ بعض الوقت على خلفية التحضير لاجتماع الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والتركي، رجب طيب أردوغان، في سوتشي (يوم الاثنين الماضي) لمناقشة العودة إلى اتفاقية تصدير الحبوب من أوكرانيا وروسيا، ووجود نوعٍ من التجاذب بين الطرفين بسبب المواقف والقرارات التركية أخيرا بخصوص انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، والسماح لخمسة ضباط أوكرانيين من قادة كتيبة آزوف بالعودة إلى أوكرانيا برفقة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وتراجع حماسة أنقرة نحو عملية التطبيع مع النظام السوري.
تكمن العلة خلف انفجار القتال بين “قسد” ومجلس دير الزور العسكري في موقف الولايات المتحدة، حيث لم تحدّد استراتيجيتها إزاء المنطقة، أو أبقتها في طي الكتمان، ما وضع قيادة “قسد” في موقفٍ غير مريح، ودفعها إلى مدّ خيوط مع النظام السوري وإيران وروسيا، من جهة، ومن جهة ثانية التشدّد في مراقبة علاقات القوى المحلية والاجتماعية بالقوات الأميركية، ومنع أي تنامٍ لها فورا، ومواجهة أيٍّ من مظاهر القوة خارج دائرتها الضيقة في منطقة شرق الفرات، خصوصا بعد تداول رواياتٍ عن سعي أميركي إلى تشكيل قوة عربية لمحاربة المليشيات الإيرانية، ما يعني تراجع أهميتها لدى الأميركيين. كما لم تسع، الإدارة، إلى ترشيد ممارسات “قسد” وضبط تصرّفاتها مع أبناء شرق الفرات عبر موازنة الأمور وتوزيع الأدوار بما يتناسب مع التركيبة القومية والاثنية، وغضّت الطرف عن التمييز الحاصل في الخدمات بين أبناء المنطقة، وعن تجاوزات قسد ضد المواطنين عربا وكردا وآشوريين سريان، أرجع معلقون هذا الموقف لخلاف بين وزارة الخارجية وقادة القوات الأميركية شرق الفرات ووزارة الدفاع الذين يتبنون موقف قسد كاملا، كما لم تلتفت إلى تجاوزات الخبيل ضد أبناء العشائر العربية ورعايته لعمليات التهريب والاتجار مع الضفة الأخرى، حيث قوات النظام والمليشيات الإيرانية والروسية، ما دفعه إلى الاعتقاد أنه بات ركنا راسخا ورقما صعبا في المنطقة فزاد شراهة وتغوّلا فاستفز “قسد” واستدرج هجومها. وكان رد فعلها على “فزعة” العشائر غريبا ومستهجنا، حيث ألمحت إلى ارتباط هذه العشائر بجهاتٍ خبيثةٍ من دون تحديد، وجدّدت، عندما تحرّكت لوقف القتال، دعمها “قسد”، ما جعل الطرف الآخر يشكّ في طبيعة التسوية ومآلها، وهذا ما عكسه بيان شيخ العقيدات، إبراهيم الهفل، الذي وصف بيان التحالف بعد اجتماع التهدئة الذي حضرته وجوه عربية موالية لـ”قسد” بالكلام الجميل، و”لكن ننتظر التنفيذ”.
دفعت الإدارة الأميركية الموقف نحو حافّة الهاوية، عندما لم تطلب من “قوات سوريا الديمقراطية” وقف هجومها والتوقف عن قصف القرى والبلدات بالمدفعية والمسيرات ورفع حظر التجوّل، وكأنها تريد لـ”قسد” سحق مقاومة العشائر، ما سيرتّب، في حال انتصار “قسد”، تصاعد العداء والكراهية وفتح الباب واسعا للنظام وإيران وروسيا للاستثمار في المظلومية، ودفع العشائر إلى التعامل معهم ضدا من “قسد” والتحالف. وفي حال انتصار العشائر إيجاد كيان سياسي جديد على رقعة من أرض شرق الفرات، ستتحوّل، مع الوقت، إلى بؤرة تجذب المغامرين والمتنافسين وساحة صراع وقتال.
المصدر: العربي الجديد