ذهب بعضهم من الذين تأخذهم الشعارات بعيداً عن وقائع الأحداث إلى أنَّ أمريكا ستسقط أو سيسقط نظامها بسبب حادثة موت جورج فلويد مكررين بذلك ما كان قد قيل عام 2008 لدى نشوء الأزمة المالية التي عصفت بأمريكا (القروض الكبيرة الميسرة للسكن) إذ قيل إن الإمبريالية الأمريكية قد انهارت ولن تقوم لها قائمة..! بيد أنَّ السنوات التي تلت الأزمة كذبت نبوءة هؤلاء باستعادة البنوك الأمريكية عافيتها وعودتها كما كانت..
لا شك بأن زخم المظاهرات التي قامت في أكثر من ثلاثين ولاية أمريكية، وهددت الأمن الداخلي العام بما استخدمته من عنف كاد أن يستدعي معه إنزال الجيش، ما دل على احتقان عميق داخل المجتمع الأمريكي ينم عن وجود قهر ما، قد يكون سببه التفاوت في العيش، والتمييز متعدد الأوجه، ووجود قوانين جائرة تسمح باستغلالها لمن لديه تمييز عنصري جائر مبني على بقايا ثقافة أمريكية متخلفة تحمل حقداً استعمارياً قديماً على عموم الملونين الذين كانت لهم مساهمات كبرى في بناء الحلم الأمريكي ما أوصل أمريكا والأمريكيين إلى هذه الحال من الرقي والتقدُّم الاجتماعي يخرجان تلك الثقافة من حياة الأمريكيين اليوم لا بسبب كثرة الملونين المهاجرين من أصقاع الأرض كلها، وليس، كذلك، بسبب الفوارق الاجتماعية بين الولايات التي تشكل بمجملها الدولة الأمريكية العظمى، بل بسبب التطور العلمي والتكنولوجي الذي يتطلب إعادة صياغة القوانين والأعراف السياسية والاجتماعية لتتوافق مع واقع النمو المجتمعي الذي يحتاج إلى قوانين أكثر ردعاً لمن في ذاكرتهم بقايا من تفكير تمييزي أو استعلائي، فأمريكا التي وصلت إلى ما وصلت إليه من نهوض علمي وبناء اقتصادي رفيعين ونالت مكانتها الدولية على ذلك الأساس ولها كلمتها اليوم في المجتمع الدولي وفي كل مشكلة تخصه، لا بد لها من إعادة ترتيب قوانينها الداخلية، وأنسنتها أكثر فأكثر لتساهم في لأم الجراحات الاجتماعية التي تحدث بين الحين والآخر وتتجلى على نحو فظيع، لم تعد البشرية، بما اكتسبته من حساسية إنسانية، تتقبله..
لكنْ من غير المفهوم ولا المقبول اليوم أن يظل الرئيس الأمريكي دولاند ترامب صامتاً تجاه حادثة موت مواطنه جورج فلويد على نحو عنصري بغيض مشبع بوحشية وحقد غير مسبوقين، ودونما سبب بدا من الضحية يدفع ذلك العنصري الأبيض للتصرف ببلادة تخلو من أي حسٍّ إنساني.. وليخالف القوانين، والأسوأ من كل ذلك أن حسه الإنساني لم يتحرك لاستغاثة فلويد..!
إن قراءة سريعة للماضي الأمريكي يعطي شواهد وأدلة على أن الرؤساء ورجال القانون الأمريكيين كانوا مرنين مع حوادث تهدد المجتمع الأمريكي فلدى زرع الصواريخ السوفييتية في كوبا تفاقمت الحال مهددة بعواقب كارثية قد تؤدي إلى حرب عالمية نووية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي قد تنهي العالم أو دولاً كثيرة إضافة إلى حياة الملايين من البشر لكن كينيدي بالاتفاق مع خروتشوف استطاعا أن يجنبا البشرية ذلك بتفاهم وافق عليه الطرفان. واتهم حينها كينيدي بانعدام المسؤولية، وعندما طوّر العلاقات مع الاتحاد السوفيتي نظر السياسيون اليمينيون إلى ذلك التصرف كنوع من التعاطف مع الشيوعية. لكن على الصعيد الداخلي ارتفعت شعبية الرئيس جون كنيدي وقدّمت وسائل الإعلام صورة جذّابة عنه..
وفي عام 1963 قام الزنوج بثورة سلمية ساهم فيها مئات من الألوف بينهم عشرات ألوف البيض ألقى خلالها مارتن لوثر كينغ خطبته الشهيرة” “لدى حلم” جاء فيها: “لدي حلم بأن يوماً من الأيام سيعيش أطفالي الأربعة في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم”.
وفي أعقاب اغتيال الرئيس كينيدي عام 1963، صدر قانون الحقوق المدنية لعام 1964 وقانون حقوق التصويت للسود عام 1965 وخلال حرب فيتنام “ظهرت حركة ثقافية معاكسة تغذيها معارضة حرب فيتنام والقومية السوداء والثورة الجنسية. كما قادت “بيتي فريدان” و”غلوريا ستاينم” وآخرون موجة جديدة من الحركة النسائية التي تسعى إلى تحقيق المساواة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمرأة”.
في 9 أبريل/نيسان سنة 1968م، على إثر اغتيال مارتن لوثر كينغ جرت له مراسم جنازة جماهيرية في مدينة أتلانتا، مثّلت تعاطف الفقراء مع لوثر كينغ. وشوهدت في الجنازة بين الحضور، جاكلين كينيدي أرملة الرئيس الأمريكي المغدور أيضاً جون كينيدي، وبعد أسبوع فقط، وقّع الرئيس الأمريكي “ليندون جونسون” قانون الحقوق المدنية الذي يضمن العدل والمساواة بين الأعراق والألوان والجنسين في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، ويلزم الإدارة الفدرالية بتنفيذ بنود ذلك القانون. لكن الرئيس الأمريكي “رونالد ريغان” (1981-1989) ألغى آلية تنفيذ ذلك القانون بواسطة الإدارة الفيدرالية. يذكر أن كينغ صاحب أعظم ثورة سلمية في تاريخ الكفاح الإنساني، وأصغر الحائزين على جائزة نوبل للسلام (46 عاماً). وقد عززت مواقفه السلمية النظام الديمقراطي وأفلحت فيه إذ جاءت كما يعتقد كثيرون بباراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية في 20 يناير من سنة 2009 إلى 2016 ويفخر الكثير من دول العالم بوصول رجل من أصول أفريقية إلى كرسي الحكم في الولايات المتحدة..
أردت بذلك الإشارة إلى أن الاحتجاجات الشعبية / السلمية تفلح في أحيان كثيرة بتحقيق أحلام الفقراء والمضطهدين فيما إذا واتتها ظروف مناسبة.
الآن وما حدث من حركة احتجاج شملت نحو ثلاثين ولاية أمريكية انضم إليها ألوف البيض.. وقد لا تسقط مثل هذه الحوادث دولاً لكنها تحرِّك الضمائر لتضغط على المسؤولين والمتنمرين لتغيير سلوكهم، وقد حصل في تاريخ الولايات المتحدة مثل ذلك رغم اغتيال شخصيتين هما من أفضل مشاهير الولايات المتحدة الأمريكية على صعيد السياسة المتوازنة عقلياً وإنسانياً..
أما فيما يتعلق بالرئيس ترامب فإن توقعات سقوطه أخذت تظهر منذ اليوم الأول لانتخابه إذ كثر القيل والقال حوله ثم جاءت القرارات التي اتخذها، فيما بعد، لتشير إلى شعبويته، وتطرفه اليميني وعنصريته الواضحة، وزاد على ذلك وقاحته في الوقوف إلى جانب إسرائيل التي فاقت في تطرفها وقاحة بعض الصهاينة أنفسهم.. ثم أتى وباء كورونا ليحصد مئة ألف أمريكي ومليون إصابة، ولم يتخذ موقفاً واضحاً وحازماً منها..! كل ذلك قد يساهم في خسارته الانتخابات القادمة، فهل يقتدي بمن سبقه من الرؤساء ذوي الذكر الطيب، ويعمل على استصدار قوانين ترتقي إلى ما وصل إليه المجتمع الأمريكي من رقي وتقدم، على غير صعيد، وتنفي بقايا ثقافة بالية تنظر بفوقية إلى العديد من مكونات الشعب الأمريكي..!
المصدر: نينا برس