لعلها المرة الأولى في السنوات الأخيرة التي تفرض الجماهير فيها إرادتها على حكامها بسبب ارتكابهم ما تراه تلك الجماهير «خيانة» لما يعتبر «القضية المركزية» للأمة. فقد خرج المواطنون الليبيون في طرابلس غاضبين لدى انتشار خبر لقاء وزيرة خارجيتهم مع وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي في روما الأسبوع الماضي. الخبر لم تبثه وسائل الإعلام الليبية، بل عمد وزير خارجية الاحتلال لتسريبه لوسائل الإعلام الإسرائيلية مؤكداً اللقاء بين نجلاء المنقوش وإيلي كوهين. وليس معروفاً ما إذا كان رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، عبد الحميد دبيبة، على علم باللقاء، وإن كان الأرجح أنه كان يعلم به.
وكان مشهد الجماهير الليبية وهي تهتف ضد الاحتلال وضد من تعتبرهم خونة مثيرا لاهتمام المهتمين بشؤون المنطقة، وإن كان الحدث قد أحيط بكتمان واسع نظرا لتبعاته الإقليمية. ما حدث في ليبيا من هبة شعبية واسعة كان أمرا طبيعيا كثيرا ما تكرر في العقود السابقة، ولكن تغيرات الظروف الإقليمية والدولية ساهم في تهميش دور الجماهير بشكل كبير، ومع هيمنة سياسات القمع السلطوية في أنحاء العالم العربي، وتعمق الهيمنة الأمريكية في المنطقة كان بمثابة الحرب على تلك الشعوب وحرمانها من دور الرقابة والمحاسبة الذي يفترض أن تمارسه لضمان سيادة البلدان والشعوب.
ويمكن اعتبار ما جرى في ليبيا الأسبوع الماضي بداية خير كبير لهذه الأمة لعدد من الامور. أولا: إنه أعاد قدرا من التوازن السياسي الذي تراجع بسبب هرولة بعض الحكومات للتخلي عن قضية فلسطين والتطبيع مع الاحتلال. فهذه النخوة الشعبية يمكن أن تكون رادعا للآخرين الذين يتجاهلون إرادة شعوبهم ورغباتها، وينفذون أجندات التحالف الغربي الداعم للاحتلال. ثانيا: إنه أعاد بعض الهيبة للجماهير التي تم تهميش دورها في العقود الأخيرة فأصبحت القرارات السيادية تتخذ بدون أن يكون لها دور في صياغتها. فمنذ الاحتلال قبل ثلاثة أرباع القرن كانت الجماهير هي خط الدفاع الأول عن فلسطين، وعلى صخرة إرادتها تكسرت أطماع المحتلين وداعميهم، وبقيت إسرائيل محاصرة ضمن حدود الأراضي التي احتلتها بالقوة، وفشلت على مدى ثلاثين عاما في حصول اعتراف أي نظام عربي واحد، حتى بدأ أنور السادات مسار التراجع، ودفع حياته ثمنا لما اعتبرته الجماهير العربية (وحتى الحكومات العربية آنذاك) خيانة.
حتى العام 1979 كانت الأمة قادرة على اتخاذ قرارات كبيرة من أجل فلسطين، ومن تلك القرارات مقاطعة مصر (الدولة العربية الكبرى) وتجميد عضويتها في الجامعة العربية ونقل مقرها من القاهرة إلى تونس. ثالثا: ما حدث في طرابلس دق نواقيس الخطر في العواصم العربية التي هرول قادتها للتطبيع مع الاحتلال. صحيح أن شعوب تلك البلدان لم تستطع وقف المسار الخياني الذي سلكته حكوماتها ولكن بعض هذه الدول، ومنها البحرين، شهدت احتجاجات وتظاهرات ضد التطبيع، وتمت مواجهة تلك التحركات بقمع شرس واعتقالات لم تتوقف حتى الآن. هذا يعني أن ما حدث في ليبيا يمكن أن يتكرر في بلدان أخرى فيما لو توفرت ظروف مناسبة. رابعا: إن هبة الجماهير فاجأت الكثيرين الذين اعتقدوا أن استئصالها من الحياة السياسية العامة قد اكتمل، وأن الحكومات أصبحت في مأمن من غضبها.
من خلال السياقات السياسية في المنطقة العربية يتضح أن العائق الأول الذي يحول دون تحرك الجماهير هو غياب الحريات العامة وتنمر الاستبداد، وهيمنة القمع والاضطهاد وتغييب الإرادة الشعبية. الأمر المؤكد أن الغرب أصبح راعيا قويا لهذا الاستبداد للهدف نفسه، اي تمكين أنظمة الحكم، في غياب الرقابة والمحاسبة والاختيار، من مسايرة سياساته على مستويين على الاقل: ضمان تدفق النفط بمعدلات واسعار مناسبة، والتطبيع مع الاحتلال.
ما يهمنا هنا يرتبط بدور الحريات في تشكيل العقل الجمعي الرافض للاستبداد والاحتلال. ولتأكيد دور الحرية والانفتاح السياسي يمكن الإشارة إلى الدول التي بقيت حتى الآن خارج مسار التطبيع لأسباب أهمها الخشية من غضب شعوبها القادرة على التعبير عن مواقفها بقدر من الحرية. فما حدث في ليبيا التي يتوفر لشعبها قدر من تلك الحرية منذ سقوط معمر القذافي ونظامه، يكشف دور الجماهير في الحفاظ على قضية فلسطين ورفض الاعتراف بدولة الاحتلال أو التطبيع معها. ولا ينحصر الأمر بليبيا، فعلى الصعيد العربي لا تستطيع حكومة لبنان، البلد الذي يتوفر على قدر من الحرية والديمقراطية، اتخاذ خطوات للتطبيع مع العدو، خصوصا مع وجود قوات المقاومة التي ترفض بشكل مطلق التخلي عن فلسطين واعتبارها قضية العرب والمسلمين المركزية. واليمن بلد آخر وقف شعبه مع فلسطين، معبرا عن ذلك بمظاهرات مليونية متكررة هي الأوسع في العالم العربي، ورافضا أي خطوة للتطبيع مع العدو. ومنذ سقوط نظام علي عبد الله صالح أصبح لفلسطين موقع متميز في اليمن، كما في غيرها من البلدان التي تتحرر من الاستبداد، حتى أصبح هناك تناغم واضح بين الشعوب الحرة وقضية فلسطين، فلا يمكن أن تكون هناك حركة تحرر بدون أن تتبنى تلك القضية وترفض الاحتلال الصهيوني. وهكذا أضفت قضية فلسطين معنى إضافيا لمفهوم حرية الشعوب وقيمها.
العراق بلد آخر يؤكد دور الشعوب في الالتزام بقضية فلسطين. هذا البلد الذي تدخلَ الأمريكيون بشكل مباشر لإسقاط نظامه السابق ولا يزالون يتحكمون في العديد من مفاصله، ولديهم أكبر سفارة في العالم في عاصمته، يرفض التطبيع مع الاحتلال. وانحصرت توجهات التطبيع في المناطق التي يمارس الأمريكيون فيها نفوذا في إقليم كردستان. وقبل عامين فحسب أعلنت الرئاسة والحكومة العراقيتان رفضهما القاطع لدعوات التطبيع مع إسرائيل، وتأكيد الموقف التاريخي الداعم للقضية الفلسطينية. وأصدر مكتب رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، هذا الموقف ردا على دعوات التطبيع الصادرة عن مؤتمر «السلام» الذي عقد في 25 أيلول/سبتمبر 2021 في مدينة أربيل في إقليم كردستان العراق، ونظمته شخصيات عشائرية من السنة والشيعة بدعم أمريكي، ودعا إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل بشكل علني، في أول حدث من نوعه في العراق. يضاف إلى ذلك أن المرجعية الدينية في العراق تحرّم التطبيع مع الاحتلال، وبذلك قطعت الطريق على أي محاولة لجر أرض الرافدين بعيدا عن المحور الرافض للتطبيع.
وتلتزم الكويت كذلك بموقف رافض للتطبيع برغم الضغوط الأمريكية عليها، فهي البلد الذي تدخل الأمريكيون قبل ثلث قرن لإخراج القوات العراقية من أراضيه، ولكنهم فشلوا حتى الآن في دفع الكويت نحو التطبيع. وقبل ثلاثة شهور فحسب أقر مجلس الأمة الكويتي بالإجماع مشروع قانون يحظر التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي. وقال في بيان تلاه رئيس المجلس مرزوق الغانم إن «هذه الخطوة تعد رسالة جدیدة بثبات الموقف الكویتي، والتقاء الحكومة ومجلس الأمة، على الإدانة الشدیدة والرفض التام للعدوان الصهيوني الأخير وكافة جرائم الاحتلال في القدس وقطاع غزة والضفة الغربیة والداخل الفلسطيني». واعتبر البيان إسرائيل دولة معادية، ويحظر على الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين عقد اتفاقات أو صفقات مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل أو منتمين إليها بجنسيتهم أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها. وحتى وقت قريب كان السودان يرفض التطبيع ولكن سيطرة العسكر غيّرت ذلك الموقف، فأصبح بلد «اللاءات الثلاثة» من الدول المتوجهة نحو التطبيع.
الواضح أن أمريكا تسعى بكل ما لديها من جهود لتهيئة الظروف لفرض التطبيع على العالمين العربي والإسلامي، ولو تطلب ذلك دعم انقلابات عسكرية تسهل ذلك.
هذه الحقائق قد تساهم في كشف بعض أسباب حرمان الشعوب العربية من ممارسة دورها في أهم قضية تتحداها منذ ثلاثة أرباع القرن. فثمة ارتباط وثيق بين الاستبداد والاحتلال، فالاحتلال إنما يستمر في الظلام المعتم الذي تغيب عن أجوائه شمس الحرية ونسيمها. أما حين تستنشق الشعوب عبيرها فإنها تنتفض من الكسل والسبات والتخدير لتستعيد موقعها في الصفوف الأمامية من جحافل النضال من أجل حرية فلسطين التي بقيت تتحدى جراحها وتتمرد على الموت. حياة فلسطين مرتبطة بحياة الشعوب العربية والإسلامية، وحياة هذه الشعوب تتطلب قدرتها على التنفس من أجل البقاء واستنشاق عبير الحرية لتستقوي به في طريق الصمود والكفاح.
لقد تم تكبيل شعوب الأمة عقودا، بينما تؤكد الوقائع أن القدر الضئيل من الحرية المتاح لبعض هذه الشعوب يفسر إصرارها على رفض التطبيع وإجبار حكوماتها على احتضان قضية فلسطين وعدم التفريط بشيء من الحق السليب. وهكذا أصبحت حرية الشعوب سلاحها في معركة التحرير التي يخوضها أبناء فلسطين، وبدونها ستبقى هذه الشعوب مثل أسود الشرى المكبلة بالأصفاد، مسجونة في عرائنها.
كاتب بحريني
المصدر: القدس االعربي