يتعين مستوى نجاح الثورات بدلالة شمولها واستمرارها، وتعبيرها عن جموع الناس، وقدرتها على اقتناص الفرص المناسبة والمهيئة لها، من أجل الوصول إلى غاياتها، وتحقيق ماخرجت الكتلة التاريخية السورية على هديه، وهي تصبو إلى إنجازه .
ولعل مايجري اليوم في الجنوب السوري، في كل من السويداء ودرعا، يندرح في أتون المعطيات الملبية والمستوفية للكثير من الشروط، الذاتية والموضوعية، ضمن مفاعيل الواقع السوري ومتغيراته الآنية والمستقبلية. فقد جاءت الموجة الثانية من الربيع السوري بعودة واعية، أتى بها الناس كل الناس، سلمية غير مؤدلجة، ومدركة بحق لطبيعة الصراع الدائر في سورية، وجملة بواعث النهوض الممكنة والمتاحة، وفي سياق الانطلاق من متغيرات سياسية واقتصادية معيشية غاية في الصعوية، حيث تجاوز العوز المعيشي للسوريين كل الحدود، وأوصلت الطغمة الحاكمة في دمشق الشعب السوري إلى خط فقر مدقع وغير مسبوق، تجاوز التسعين بالمئة، بعد تهديم مايقرب من ٦٥ بالمئة من البنية التحتية في مجمل سورية. واعتقال مايقرب من 900 ألف سوري منذ بدايات الثورة السورية عام 2011،علاوة على إصرار حكام دمشق الاستمرار في سياساتهم في الحل العسكري والأمني، وتمدد أدوات المقتلة السورية، دون وجود أي بوادر جدية للولوج في الحل السياسي، من خلال القرارات الأممية ذات الصلة، بل راح نظام بشار الأسد ماض في حالة اصرار وعنجهية وتمنع رافضًا كل تعددية المبادرات المطروحة، ومنها بالطبع المبادرة العربية التي كما يبدو قد ساهمت من طرف واحد هو النظام الرسمي العربي في عودة (غير مظفرة) لنظام بشار الأسد، إلى حضور اجتماعات جامعة الدول العربية والدخول في منعرجات البوتقة العربية بعد التفاهمات السعودية الإيرانية التي بدأت منذ 10 آذار/ مارس المنصرم في العاصمة الصينية بكين وبرعاية صينية، حيث أنتجت بعدها الكثير من عمليات وتحركات نحو التهدئة في كل من سورية واليمن ولبنان والعراق.
ضمن هذه المتغيرات والانزياحات الإقليمية الكبرى والتي شملت ايضا تركيا برعاية روسية للتفاهم والتطبيع مع نظام الأسد، وفي سياق إصرار النظام السوري على ممارسة نفس السياسات التي اشتغلت على إفقار السوريين، وهي التي جعلتهم في حالة ضياع وفقدان لأمنهم الغذائي المنهوب والمسروق من قبل العصابات الحاكمة والتشبيحية في دمشق، فسادًا وإفسادًا وإصرارًا على المضي من قبل النظام السوري بسياسات عصبوية لانتاج وتصنيع الكبتاغون الذي أضحى مقلقًا جدًا للمحيط الإقليمي وللعالم أجمع، وكذلك همروجة رفع الرواتب للعاملين في الدولة للضعف، وبعدها أو بالتساوق معها سحب كل أنواع الدعم الحكومي للسلع الغذائية والأساسية للناس، ومن ثم تلك القفزة الكبيرة في أسعار المواد الغذائية والدوائية، لتزيد إلى ماهو أكثر من ثلاثة أضعاف، خلال بضعة أيام قليلة من تاريخ زيادة الرواتب للعاملين، يضاف إلى ذلك الانهيار الكبير في سعر العملة السورية (الليرة) أمام الدولار الذي تجاوز 16000 لكل دولار واحد وهو معرض للانهيار أكثر وأكثر وفق المعطيات المتابعة والمشهد السوري الاقتصادي. كل ذلك وسواه من سياسات كم الأفواه وإلغاء السياسة من المجتمع السوري، والقبض على الحرية وحقوق الإنسان، وإنهاء وجودها كليًا، دفع بجماهير السوريين وخاصة في الجنوب السوري ممن هم تحت سلطة واستبداد بشار الأسد للانطلاق من جديد، وتجديد الربيع السوري وإعادة إنتاج الثورة السورية السلمية، وفق ضرورات ملحة، وعوز اقتصادي غير معقول وغير مسبوق، والتهميش من قبل السلطة الحاكمة للناس وتجاوز كل مطالباتهم بالحل الاقتصادي والمعيشي. كل ذلك وسواه دفع بالحراك في الجنوب إلى أن يأخذ مكانه ضمن سكة القطار في الوصول إلى كنس الطغيان وإعادة رسم بنيان دولة متماسكة من جديد تنتميء إلى عقد اجتماعي مناسب وموات للجميع، ونحو إنتاج دولة المواطنة وسيادة القانون، وإزاحة كل أدوات وتجليات الاستبداد والطغيان، لإنجاز مالم ينجز، ومن أجل إعادة إحياء فكرة الثورة السورية للشعب السوري الواحد. وبالفعل فقد استطاعت انتفاضة وثورة الجنوب من جديد، تحريك الشارع السوري بقضه وقضيضه، والانطلاق القوي والكبير يوم الجمعة الفائت ضمن حالة فوران شعبي سوري يعيدنا ويذكرنا بحالات الفوران الأولى، التي بدأت أواسط شهر آذار/ مارس ٢٠١١ في الجنوب السوري انتقالًا وامتدادصا إلى كل محافظات سورية، وجل الجغرافيا السورية.
مايمكن التوقف عنده في انتفاضة الجنوب السوري اليوم هو ارتفاع مستوى الوعي الشعبي السوري، المطابق لضرورات المرحلة، وتجاوز الناس بوعيهم الواضح، لكل المعوقات الأيديولوجية، وشمول التحرك لشرائح واسعة، ومنها المؤسسة الدينية في السويداء، التي التحقت بالناس وبمطالبهم وبأسبقية وعيهم. إضافة إلى أن هذه الحراكات الجنوبية يبدو أنها قد وعت الدروس وأدركت أن الثورة لابد لها من أن تكون داخلية شعبية سورية بامتياز، وأن الارتماء في أحضان الخارج لاينفع الثورات، بل يحيلها إلى أن تكون ألعوبة ضمن مصالح الخارج، الذي ليس جمعية خيرية بل يمشي ويتحرك وفق مصالحه هو، وليس من أجل مصالح السوريين، أو أي شعب آخر، حتى لو كلن صديقا له، أو يعيش حالات الظلم والهدر والقهر والاستلاب، كما عاش ويعيش الشعب السوري بمجموعه.
وقد أدرك المنتفض السوري في حراكه الأخير، وفي الموجة الجديدة من الانتفاض، أن السلمية لايجب تخطيها، وأن مقاومة ومناهضة تغولات وهيمنة الفاشيست الأسدي، يمكن أن تكون بالصدور العارية والفاعلة، أكثر من السلاح، والحراك السلمي يعوق أي تدخلات خارجية عسكرية من قبل الاحتلال الروسي، أو احتلالات الإيرانيين.
إن توحيد الخطوات، والتعلم من أخطاء الموجة الأولى من الثورة السورية، أوالربيع السوري باتت هي الأخرى، مسألة في غاية الأهمية، حيث ليس من الضروري أن تصلح أدوات الموجة الأولى في الحراك، بما يمكن أن يكون أداة فاعلة ومناسبة، بعد اثني عشر عامًا ونيف، فلكل فترة زمنية أوضاعها ومتغيراتها وادواتها الجديدة والمستجدة، ولعل الاستفادة من دروس وأخطاء قوى الثورة والمعارضة الرسمية، مايمكن أن ينجز تطلعات أكثر قدرة على التغيير في الممارسة العملية، وأكثر دينامية في الوصول إلى الغايات.
المصدر: موقع المجلس العسكري السوري