تجاوزت الثورة السورية من فترة مبكرة العصابة الحاكمة وكادت أن تنهيها شكلاً ومضموناً لولا افتقارها إلى المعرفة السياسية اللازمة والدقيقة المرتبطة بالإقليمي وطبيعته ودوره ووظيفته .
ولقد وضعت إفرازات ثورات الربيع العربي عموما والثورة السورية خصوصا جميع الإقليمي في خاناتهم الوظيفية، وضمن أحجامهم الطبيعية، وفضحت كذبهم وادعاءاتهم في استقلالية قراراتهم السياسية والتنموية والثقافية .
وتشكل هذه الإضاءة نقلة مهمة في العمل السياسي والتأسيس الصحيح له بحساب الفواصل الدقيقة بين المحلي وعلى رأسه العصابة المتهاوية، وبين الإقليمي وعلى رأسه مثلثه المتغول والمحتل، وبين المشغل من باب أولى، والانغماس في إسقاط الأول دون محاصرة الإقليمي ومحاوطة خطواته وتفريغها من مضمونها التسلطي، وفهم الدولي والتخلص من استعلائه هو إضاعة للوقت وتشتيت للجهود ودوران بحلقة مفرغة وتكريس للتبعية .
ويثبت الإقليمي في ضوء وظيفته أمام الدولي في كل مرة بسلوكياته العنصرية، وبخطواته نحو تقوية الإجرام المتمثل بالعصابة الحاكمة والميليشيات الطائفية، مدى فشله وقصر نظره وضعفه أمام الثورة السورية العظيمة التي مهما أطالوا معاناة ثوارها ومنعوهم من الاستقرار والتموضع السياسي تحت ذرائع واهية فإنهم لن يحصدوا إلا مزيداً من الانكشاف والانتكاس على شاكلة أستانة المشؤومة والاحتفاء بالمجرم وتلميعه، وستكون الضريبة التي سيدفعونها وويلاتها أكبر، ولات ساعة مندم .
وما يقوم به المثلث الإقليمي تحديداً بإشراف الدولي عقب الزلزال المدمر، وقبيل ‘ هاوية جدة ‘ وبعدها بأن خيارات السوريين ماتت، وأنهم مضطرون للمضي بما يرسمونه ويريدونه لهم هو مجرد خيال مركب، وضعف في القراءة السياسية لدى صناع القرار في هذه المنظومات مجتمعة، وبعد هائل عن نبض الشارع السوري، وتغيراته البنيوية .
لا شك أن الإيراني وميليشياته الطائفية من أشد أعداء السوريين، ومن الرؤوس الوظيفية الأخطر في المنطقة التي تعمل لصالح المشغل الدولي إلى جانب الكيان الصهيوني اليهودي. وكذلك الروسي مع ضرورة التفريق بينهما بنقاط كثيرة ومتعددة الخانات .
لكن قسما كبيرا من السوريين الأحرار استغرق وقتا طويلا ليدرك أن سائر الإقليمي لا يختلف عن الروسي والإيراني في عدائه للثورة السورية وإرادتها السياسية القاضية بتغيير منظومة العصابة بأكملها، وإسقاطها بقرار ذاتي خارج الإملاءات والتدخلات والقرارات الأممية والدولية، لأن الثورة بهذا المعنى تحمل انعكاسات تؤثر عليهم جميعا داخل أوطانهم، فلا يمكن لهم دعم قرار الحرية والكرامة وفق نسخة الثورة السورية طواعية .
وتعامل هذا القسم من السوريين الأحرار بقصور سياسي مع الإقليمي ‘س’ على أنه صاحب قرار مستقل وأنه حليف، ومع الإقليمي ‘ص’ على أنه مع حقوق الإنسان والديمقراطية وضد الاستبداد والإجرام، ومع الإقليمي ‘د’ على أنه نصير المظلومين وقادر على تحدي الأميركي كما الشعارات الطنانة والخطب الرنانة التي يتحفنا بها صباح مساء، وأن الإقليمي ‘ت’ نشمي وصاحب مروءة، وأن الإقليمي ‘و’ هو زعيم المنطقة بل زعيم المسلمين وداعم قضاياهم الأول، أما الإقليمي ‘ي’ فسخاؤه منقطع النظير وليس له مثيل في النقاء في المنطقة وربما في العالم ودون مقابل، ولم يستطع أن ينصت إلى الصوت السيادي، بل سخفه وعمل خارجه، فأضحى مكبلا بقيود الارتهان .
ومازالت قلة قليلة من السوريين الأحرار البسطاء تخدع نفسها حينما تصف هذا الإقليمي أو ذاك بوصف إيجابي، وحينما تعرض عن الأدلة الدامغة التي تثبت نقيض ذلك، وحينما تأبى أن تدرك الحالة الوظيفية الطوعية لصالح المشغل الدولي، فإذا كانوا داخل بلدانهم غير قادرين على اتخاذ قرارت مستقلة وسيادية رغم الوعود الزمنية المتعاقبة، فكيف يدعمون إرادة متقدمة كالتي تجسدها الثورة السورية !
وإن السوري الانتهازي والوصولي الساعي نحو تموضع أو صفة معينة، أو السوري البيولوجي الذي لا هم له إلا أن يأكل ويشرب وينام وينجب، أو السوري البارع في مهنته الحقوقية أو التعليمية أو الهندسية أو الإدارية أو الطبية أو التجارية بعيدا عن الشأن العام وقضاياه وملفاته، أو السوري العامل على تطويع استحقاقات الثورة السورية لصالح إقليمي ما، أو السوري الثوري الذي خرج من عبودية العصابة واستبدادها وربقة أجهزتها الأمنية ليقع أسيرا طوعيا أو مضطرا لجهاز عصابة إقليمية أخرى، كل أولئك أفرادا أو جماعات، مجالس أو هيئات ليسوا هم المعنيين بالإضاءة، لأن أولئك وخاصة الصنفين الأخيرين عقبة في وجه الحرية والكرامة السورية، وخارج دائرة التغيير إذ إنهم مقربون من ذوي القرار الإقليمي والدولي، ويقدمون لهم الخدمات الجليلة ضد العمل الثوري السياسي الذي يؤمن باستمراية الثورة وانتصارها الحتمي، ويصرحون بهزيمة الثورة بحواراتهم ومقالاتهم ومراكز دراساتهم، وواقعيتهم السياسية تقتضي التسليم للإرادة الإقليمية والدولية خيارا وحيدا، وإقرار السيادة مدعاة للسخرية والاستهزاء .
ومما يؤكد خطأ هؤلاء وانهزاميتهم، واستمرارية الثورة وقوتها الكبيرة تمكنها من إفشال الإقليمي الوظيفي إفشالا كبيرا بمجموعه وبمفرده، وذلك من خلال عدم تمكينه ومشغله الدولي من تركيب بديل للعصابة الحاكمة يمثل الثورة ظاهرا ويناقضها حقيقة، مع أن المحاولات كثيرة جدا؛ صحيح أنهم جمعوا هياكل تمشي طوع البنان، وصحيح أنهم أمسكوا بالفصائل وسيطروا على قرارها، وصحيح أنهم ضبطوا الحدود وفق أجنداتهم، وصحيح أنهم مكنوا الراديكالية بكل توجهاتها الأيدولوجية على مساحات لا بأس بها من الجغرافية السورية، وصحيح أنهم استقبلوا المجرم علنا وضربوا عرض الحائط بأمل شعب عريق، وصحيح أنهم حضنوا عديدا من الأفراد في عواصمهم ويغذونهم بالسحت ويدعمونهم لينفذوا لهم ما يخدمهم ويطعن الإرادة السورية كلقاء الدوحة ‘ومدنية’ والمجلس العسكري المعجل المؤجل، وصحيح أنهم يذيقون الشعب السوري كل ألوان القهر والعذاب في سورية، ويلاحقون استقراره خارجها في دول عديدة، ويتصرفون معهم بتصرفات بعيدة كل البعد عن المنطق والقانون والإنسانية والمروءة وشهامة الرجال؛ جزئيات أكثر من أن تحصى لا جدال في صحتها، ولا نقاش فيها من حيث إنها تلحق الأذى الجسدي والمعنوي بكثير من السوريين الأحرار، لكنها ساقطة من حيث مؤداها السياسي الذي يريد السيطرة على الشعب السوري وإعادته إلى ربقة الاستبداد والعبودية والطاعة القهرية، فما زال هذا الشعب يتحدى كل الإقليمي الوظيفي والمشغل الدولي في رفضه للعصابة الحاكمة ويصر على إسقاطها كما لو أننا في ساحات دمشق في الأيام الأولى من النصف الثاني من شهر آذار من عام 2011، ومازال هناك أشخاص على قلتهم يبرزون تحديهم الواعي والراقي والمهني لكل الأدوات المحلية التي باعت الأرض والعرض والدم بثمن بخس، وللجبروت الإقليمي الذي يصافح المجرم ويتودد للإجرام ويعانقه كمن يرفض طلاق من علم سلوكها الشائن العلني المتاح الذي لا يرد يد لامس؛ وفي ذلك حصار للدولي الأميركي الذي يلاحقه الزمن، والذي لا سبيل أمامه إلا أن يرضخ لإرادة التغيير في المنطقة، أو أنه سيفرط عرى المنطقة واحدة تلو الأخرى بكبره وعناده، وبقصور الإقليمي الوظيفي سياسيا الذي يرفض أن يفهم الدرس الشعبي السوري، فبدل أن يجعلوه عبرة لكل من ينادي بالحرية والكرامة فإنه جعلهم في مواقع لا يحسدون عليها داخليا وخارجيا، ويصادر منهم كل أسهمهم، ويكشف نفاقهم وصغارهم، وينسف خطواتهم التي كان آخرها المجلس العسكري .
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن انطلاق مايسمى “حركة التحرر الوطني” بقيادة فرد معزول في أوروبا عن كل العوامل القيادية، تفتقد للمعنى الحركي كما تفتقد للعمق التحرري، والبعيدة عن الارتكاز السيادي الذي يمثل أبرز المعطيات الوطنية .
إن أية خطوة عسكرية من هذا النوع بمعزل عن بنية ثورية سياسية وطنية قيادية هي مشروع قتل وإجرام جديد مقونن ضد السوريين، وإن الضابط الذي يرى نفسه مؤهلا لقيادة سورية في المرحلة الانتقالية، أو فيما بعدها هو على شاكلة حسني الزعيم أو جمال عبد الناصر أو حافظ أسد أو القذافي أو السيسي أو البرهان أو حميدتي الذين لن يجروا إلا الخراب والدمار. اربعوا على ظلعكم، وكفوا عن المغامرات، وتعلموا من التاريخ .
ويبرز المجلس وحركته الاستعراضية الأزمة الإقليمية واهتراءها قبل أن يفصح عن ضحالة مستوى الأدوات المحلية، لأن حركات التحرر تتبع قيادة ثورية سياسية تنطلق من رؤية سياسية عميقة تجسد إرادة شعبية بخطوات متماسكة ورصينة، وليس عبر بيانات وقاعات متناثرة على الحدود، وناطق إعلامي، وممثل سياسي، ويتعجب من يتمتع بالحد الأدنى من العقل السياسي المهني كيف يخطو أولئك بهكذا خطوات فاشلة لا تختلف بنيتها وطريقة إعدادها عن الائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية، وعن خطوة أنطاليا الفصائلية، بل هي أشد كارثية لأنها لا تستفيد من الزمن ودروسه، وترهن نفسها للأجندات الإقليمية، وتفرط بالشعب وإرادته الثورية العظيمة، وبيانهم الصادر من ثلاث أيام فقط يفصح عن ذلك .
وبالإضافة إلى ما تعنيه خطوة المجلس العسكري فإن الإقليمي يظهر مكابرة بشكل ملحوظ ومرصود حينما يصور عبثا ان دوره يمشي ضمن مسارات السيطرة وأنه مرتاح، وخارج دائرة الخطورة أو التوتر، والحقيقة أن الأحداث والوقائع تبين أن ازماته الداخلية وأدواره الوظيفية الخارجية تتشابك وتتعقد لدرجة الانهيار المفاجئ، لا سيما أن عنصر الزمن لم يعد له وللدولي كما يصورون، لأن التلاعب بالأعراض والدماء والأقوات والأرزاق ومستقبل الشعوب لا يقل خطورة عن التحرك داخل دوائر النار الملتهبة التي لا تسير باتجاه واحد، ولا تدار بأجهزة تحكم، فذلك تبسيط غاية في السذاجة .
وفي الختام فإن المسؤولية الكبرى بعد كل هذا تقع على السوري الحر في الاستفادة من أن الإقليمي يصرخ رعبا، ومن أن الدولي لا يملك رؤية تضمن له استمرار قيادته وسطوته كما هي معهوده في المنطقة، ومن أن الأدوات السورية مكشوف للشعب السوري تزلفها واستزلام المخابرات لها؛ وعليه فإن الثقة بالذات والاعتماد على وسائلها والإقدام على إحداث خرق خارج هذه المعادلات كفيل بأن يحقق الإرادة والتموضع السوري، فالبنية الشعبية في سورية وخارجها جاهزة لأبعد حد فيما إذا اقتنعت بأن هناك طرحا سوريا يختلف عن القائم، من سوريين مختلفين عن الهياكل والقابعين في العواصم التابعين لأجنداتها، وعن الاستعراضيين كأمثال المجلس العسكري وحركته التحررية .