في أكتوبر/تشرين الأول 2022، كُلِّف محمد شياع السوداني برئاسة الحكومة العراقية بعد أزمة سياسية هي الأطول في البلاد منذ الغزو الأميركي. صعد “السوداني” إلى منصبه الجديد في ذروة الجمود السياسي، وخلال وضع اقتصادي مأزوم تعيشه البلاد، بيد أنه تمكن من كسب موطئ قدم له داخل دوائر السلطة في بلد يبحث عن استقرار داخلي، مستفيدا من الهدوء الذي تعرفه الساحة الخارجية التي شهدت اختراقا ملحوظا في العلاقات السعودية الإيرانية بعد أعوام من القطيعة، وللمفارقة، فقد لعب العراق نفسه دورا مهما في الجهود السياسية التي مهدت لتوقيع “اتفاق بكين” (1) الذي أعاد العلاقات بين الرياض وطهران بوساطة صينية.
كانت بغداد تمتلك على ما يبدو ما يكفي من الدوافع للانخراط في جهود نشطة للتقريب بين الخصمين الإقليميين، فبعد زهاء عقدين امتلكت خلالهما طهران مقاليد الأمور في السياسة العراقية في أعقاب الغزو الأميركي، كان العراق يسعى إلى نوع جديد من التوازن يستعيد معه موقعه كقوة عربية، وذلك عن طريق تأسيس علاقات إيجابية مع الدول العربية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية. ولعب مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء العراقي السابق، دور عراب تلك الإستراتيجية، لاقتناعه بأن لدى العراق (2) القدرة على الجمع بين المصالح السعودية والإيرانية معا، دون أن يضطر لخسارة أحد الحليفين، أو السقوط في لعبة التوازن الصعب.
ورغم هذه الرغبة المُعلنة في الوقوف على المسافة نفسها من الجميع، تشي عدة مؤشرات صادرة من الحكومة العراقية أنها ترغب في رسم توجهاتها بعيدا عن السرب الإيراني، ولعل الحادثة الأكثر دلالة على هذا التوجه هي استدعاء طهران للسفير العراقي لديها احتجاجا على استخدام بلاده مصطلح “الخليج العربي” بدلا من لفظ “الخليج الفارسي” الذي تعتمده إيران، أثناء استضافة العراق لبطولة الخليج العربي مطلع العام الحالي، استدعاء تكرر مرة أخرى في مايو/أيار على خلفية مزاعم إيرانية باستضافة العراق لـ”جماعات انفصالية” خلال حفل رسمي في كردستان العراق، وهو مصطلح تستخدمه طهران لوصف المجموعات الكردية الإيرانية.
من حاضنة صدام إلى سطوة إيران
لعبت بغداد دورا بارزا في أغلب القضايا الكبرى والاضطرابات التي عصفت بالمنطقة خلال حقبة التسعينيات وما قبلها؛ بداية بكونها عضوا مؤسسا في جامعة الدول العربية في الأربعينيات، ثم تبنّيها للفكر الاشتراكي لحزب البعث السوري، قبل أن تتحول القيادة البعثية إلى العراق الذي وقع تحت حكم البعثيين منذ الستينيات وحتى الغزو الأميركي. وبوصول صدام حسين، أحد أبرز رجالات البعث إلى الحكم، باتت الجمهورية العراقية في عهده معقلا للقومية العربية، والبيت الكبير للأيديولوجية “الوحدوية” العربية، فقد كان أحد شعارات حزب البعث العراقي “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، وقد تسبب هذا التوجه الأيديولوجي “التوسعي” للعراق في توترات مع جيرانه العرب، لا سيما في دول الخليج العربية.
ولكن في العام نفسه الذي وصل فيه صدام حسين إلى سُدة الحكم، اندلعت الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، مثيرة قلقا كبيرا في الأوساط العربية فاق نظيره الذي خلّفه توجه العراق الاشتراكي والقومي. سعى صدام لاستغلال هذه التطورات لصناعة صورة من “الاصطفاف العربي”، حيث وقّع ميثاق الدفاع العربي في فبراير/شباط 1980، لأسباب كانت في البداية غير معلنة، لكنها أضحت بعد ذلك واضحة، وتمثّلت في منح الشرعية لحربه المرتقبة ضد إيران التي أراد (3) أن يخوضها باسم العرب لا باسم العراق وحده، لا سيما أن طهران كانت بدأت بالفعل في تعبئة المجتمعات الشيعية (4)، واختراق المساحات السياسية والأيديولوجية المنيعة سابقا في عدد من الدول العربية وعلى رأسها العراق وسوريا ولبنان واليمن.
دخل صدام حسين الحرب باسم العرب، وتجرعت إيران الخميني الجديدة كأس السُّم لمدة ثماني سنوات، ومن الكأس نفسها شرب العراق، إذ تسببت الحرب في خسائر (5) فادحة ماديا وبشريا. لكن رغم هذه الخسائر المادية والبشرية الكبيرة، ساعدت الدعوة القومية العربية ورفع شعارات تحرير القدس في جعل بغداد مركزا من مراكز القوى والقيادة في منطقة الشرق الأوسط سياسيا وشعبيا.
إلى جانب الأيديولوجية، امتلك صدام دولة متماسكة، وجيشا قويا، وثروة نفطية أدرت عليه فوائض مالية، ورغم ذلك، خرج (6) العراق من الحرب الإيرانية مأزوما سياسيا ومُنهكا اقتصاديا، ومع مسحة “جنون القوة” التي أصابت صدام، قرر الهروب من مشكلاته نحو الحرب مرة أخرى، فغزا الكويت عام 1990، بذريعة رفضها إلغاء الديون التي اقترضها منها خلال حربه ضد إيران، وتمنعها أيضا عن خفض إنتاج النفط بهدف رفع الأسعار، وهي خطوة أرادت منها بغداد إنقاذ اقتصادها المتأزم بالفعل.
في النهاية، خسر صدام الحرب، ولم يفعل شيئا سوى زيادة وضع بلاده المأزوم، ومع خسارته فقد صدام أهم عنصرين للترويج للمشروع القومي، هيبة جيشه، وعائدات النفط. تعمقت أزمات العراق فيما بعد بفعل الحصار والعقوبات الأميركية، وعلى مدار العقد التالي، تداعت الأحجار السياسية تباعا وصولا إلى لحظة مفصلية في تاريخ العراق والمنطقة بأسرها، وهي الغزو الأميركي الذي أطاح بنظام البعث العراقي عام 2003.
نفوذ إيراني متجذر
كان إسقاط صدام هدفا حلمت به واشنطن طويلا، لكن المفارقة أن أبرز المستفيدين منه كانت هي طهران، رغم أن الولايات المتحدة وإيران كانتا على خلاف أيديولوجي يعود إلى ما قبل الغزو الأميركي بقرابة ثلاثة عقود منذ الثورة الإسلامية عام 1979. غير أن ذلك الخلاف نُحِّي في تلك اللحظة لصالح اتفاق ضمني بين البلدين على مصالح متبادلة، إذ أراد الأميركيون حماية مصالحهم الأمنية، وأراد الإيرانيون أن تكون لهم حصة كبرى من النفوذ داخل العراق الذي كان العدو الأول لهم في عهد صدام. ووفقا لما ذكره “زلماي خليل زاد”، السفير الأميركي للعراق، في كتابه عن تلك الفترة، فإن كبار المسؤولين الأميركيين أجروا محادثات سرية (7) مع إيران حول مستقبل العراق قبل الغزو، وحصلوا على وعود من أعدائهم بأن الجيش الإيراني لن يطلق النار على الطائرات الحربية الأميركية التي انحرفت إلى المجال الجوي الإيراني عن طريق الخطأ.
أُعلنت وفاة حزب البعث، واتفقت مصالح واشنطن وطهران مجددا على صعود طبقة سياسية جديدة مُغايرة تماما غالبيتها تنتمي إلى الطائفة الشيعية المُهمشة في زمان صدام، لكنّ بوادر الخلاف سُرعان ما ظهرت بين هذه القوى الجديدة، التي انقسمت (8) في الولاء بين واشنطن وطهران. وقد أفادت وثائق إيرانية مُسربة نشرها (9) موقع “ذا إنترسبت” الأميركي أن طهران استغلت الغزو الأميركي للعراق لفرض سيطرتها على بغداد من خلال إعداد المعارضة العراقية الشيعية أولا للحكم، مع تشكيل فصائل نخبوية جديدة موالية لها، ودعمها بالمال والسلاح، وأصبح لتلك الجماعات المرتبطة أيديولوجيًّا بنظام الجمهورية الإسلامية الحظوة والنفوذ، خصوصا بعد أن ظهرت هذه الفصائل في ثوب المدافع عن العراق أمام هجمات تنظيم الدولة الإسلامية.
سيطرت الأحزاب الشيعية الموالية لإيران على المناصب الكبرى في الحكومة والجيش وحتى الاستخبارات، كما ظهرت مجموعة عسكرية شيعية أبرزها “الحشد الشعبي” (10) التي أصبحت بعد ذلك قوة معترفا بها من البرلمان العراقي. في غضون ذلك، لم يغب دور الاقتصاد أيضا في لعبة التأثير الإيراني، بعدما أغرقت (11) السلع الإيرانية العراق، في وقت كانت تفرض فيه واشنطن حزمة عقوبات قاسية ضد طهران.
تخبرنا الأرقام بوضوح عن مدى تغلغل النفوذ الإيراني في العراق. يميل الميزان التجاري بين البلدين بلغة الأرقام لصالح إيران التي تخطت صادرتها لبلاد الرافدين نحو عشرة مليارات دولار في السنة الأخيرة (12)، مقابل 200 مليون دولار هو حجم الصادرات العراقية لطهران، ما يجعلها ثالث أكبر شريك تجاري لطهران بعد أبو ظبي وأنقرة، ورغم اصطدام إيران بنفوذ قوى دولية داخل العراق على رأسها الولايات المتحدة وتركيا، فإن ذلك لا ينفي حقيقة أن الجمهورية الإسلامية تمتلك جيشا في الداخل قوامه الفصائل الشيعية المُسلحة التي تحتكر (13) قطاعات واسعة من اقتصاد العراق، وهي مسؤولة كذلك عن الأمن في بعض المناطق بعد دحر تنظيم الدولة الإسلامية، كما نجحت الكتل البرلمانية الموالية لها داخل البرلمان في استصدار (14) تشريع يطالب بإخراج القوات الأميركية، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل، بعد تمسك السوداني وحكومته بوجود القوات الأميركية في بلاده، وهو ما يبرهن على أن الرغبات الإيرانية لم تعد وحدها القابلة للتحقيق في عراق اليوم.
قبلة عربية جديدة
تشي عدة مؤشرات باتجاه الحكومة العراقية الجديدة لرسم توجهاتها بعيدا عن النفوذ الإيراني. وقد بدأ هذا التوجه في عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، الذي طالما دافع (15) عن اعتقاده بأن العراق يمتلك مثل غيره إمكانية الجمع بين المصالح العربية (تحديدا السعودية) والإيرانية معا، دون أن يضطر لخسارة أحد الحليفين، وسبق للكاظمي نفسه أن أعلن أن توجهه حظي بمباركة من المرجعية الشيعية، ممثلة في آية الله علي السيستاني.
يتجاوز التوجه الجديد للعراق التعهدات الخطابية، وتظهر مؤشراته واضحة على الأرض، وكان منها على سبيل المثال حصول (16) أكبر سبع شركات مصرية في مجال المقاولات على موافقة مبدئية للعمل في إعمار العراق، وهو ما شكّل مفاجأة مدوية على المستويين السياسي الاقتصادي بالنسبة لطهران التي توقعت انتزاعها لذلك الملف بحكم احتكارها سوق الإنشاءات، وعلى غرار الكاظمي، ينتهج السوداني الخط ذاته، لكن بجرأة أكبر على ما يبدو، ساعيا إلى تأسيس صِلات أمتن مع دول الخليج، وجذب بلاده من ساحة النفوذ الإيراني نحو عمقها العربي مُجددا.
تحاول بغداد إعادة التموضع في مربع الحياد والبحث عن مصالحها أولا ضمن شرق أوسط يسعى لرسم خريطة سياسية جديدة تقوم على مبدأ تصفير المشكلات الإقليمية بوصفه نهجا جديدا استهلّته بعض الدول مثل السعودية وتركيا. على الجهة المقابلة، تواجه طهران أزمات داخلية أبرزها التعثر الاقتصادي ومواجهة العقوبات الغربية الذي يدفعها لمحاولة التوصل إلى صفقة مع الولايات المتحدة لاستعادة أموالها المُجمدة، والتجارة بحُرية مع جيرانها، وفي مقدمتهم بلاد الرافدين نفسها.
دفعت كل تلك التحولات بغداد لتغيير مقعدها من الانحياز التام نحو أحد الطرفين إلى الانخراط في جهود الوساطة التي أدت في النهاية إلى الاتفاق السعودي الإيراني الأخير بشأن عودة العلاقات وإعادة فتح السفارات، كما أن إطلالتها الجديدة تمنحها حضورا سياسيا وزخما كبيرا لطالما فقدته، وتُعد خطوة جريئة يحاول من خلالها العراق الخروج من عقود المشكلات السياسية والاقتصادية التي كلّفته مكانته المهمة في وسطه العربي.
—————————————————————————
المصادر:
(1) Iran and Saudi Arabia agree to restore ties at talks in Beijing
(2) العراق والسعوديّة نحو استعادة العلاقة
(3) How the Iran-Iraq war will shape the region for decades to come
(4) المصدر نفسه
(5) Iran and Iraq remember war that cost more than a million lives
(6) Saddam Hussein Discussing ‘Irangate’ (Iran-Contra) Revelations with His Inner Circle
(7) U.S. Conferred With Iran Before Iraq Invasion, Book Says
(8) Iran and Iraq: The Shia Connection, Soft Power, and the Nuclear Factor
(9) THE IRAN CABLES
(10) The Popular Mobilization Forces and Iraq’s Future
(11) Iran Dominates in Iraq After U.S. ‘Handed the Country Over’
(12) Iran’s annual export to Iraq increases 15%
(13) The growing economic and political role of Iraq’s PMF
(14) السوداني يؤيد بقاء القوات الأمريكية في العراق لأجل غير مسمى
(15) العراق والسعوديّة نحو استعادة العلاقة
(16) 7 شركات مقاولات مصرية تسعى لاقتناص أعمـال سكنيـة وبنيـة تحتيـة بالعـــراق
المصدر: الجزيرة. نت
327 7 دقائق