مسلحين بميزانيات ضخمة، يمضي الوزراء الإسرائيليون اليمينيون المتطرفون في الحكومة الإسرائيلية قدمًا في تنفيذ خطط لتهجير الفلسطينيين تحت ستار حماية المواقع التراثية.
* * *
في 17 تموز (يوليو)، وافقت الحكومة الإسرائيلية على خطة بقيمة 120 مليون شيكل “لإنقاذ وحفظ وتطوير ومنع سرقة الآثار في المواقع التراثية في يهودا والسامرة وغور الأردن”. ويأتي هذا في أعقاب إعلان سابق في شهر أيار (مايو) عن أن الحكومة ستستثمر 32 مليون شيكل في تطوير موقع سبسطية التاريخي في شمال الضفة الغربية. وتفي هذه الخطط مجتمعة بوعد ائتلافي قدمه حزب “عوتسما يهوديت” -بقيادة وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير- بتخصيص 150 مليون شيكل لـ”حماية” التراث اليهودي في الضفة الغربية.
إضافة إلى ذلك، في يوم القدس في شهر أيار (مايو)، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن تخصيص حوالي 200 مليون شيكل لمشروع “أنفاق الحائط الغربي” وتطوير المواقع الأثرية التي يسيطر عليها المستوطنون في القدس الشرقية (مثل حديقة مدينة داود الأثرية)، ليصل إجمالي الاستثمار المعروف في السنوات المقبلة في مواقع التراث اليهودي عبر الخط الأخضر إلى رقم قياسي قدره 340 مليون شيكل.
تأتي هذه الخطط على خلفية حملة استمرت على مدى خمس سنوات نظمها فرع من مجموعة “ريغافيم” الاستيطانية اليمينية المتطرفة المسماة “حراس الخلود”، التي تتهم الفلسطينيين بتدمير الآثار عمدًا. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، نجحت الحملة في تأمين ملايين الشواقل من التمويل الحكومي لمراقبة وعرقلة التنمية الفلسطينية في المواقع الأثرية والقديمة أو بالقرب منها.
في حين أن سرقة الآثار القديمة وتدميرها هي مشكلة في الضفة الغربية، كما هو الحال في المنطقة ككل، فإن تقديمها كمبرر لما تسمى خطة الطوارئ الوطنية التي تم الإعلان عنها الشهر الماضي هو خديعة واضحة. سوف يتم استخدام أقل من 10 في المائة من مبلغ الـ120 مليون شيكل المخصص للخطة لمكافحة سرقة الآثار وتدميرها، في حين تم تخصيص 80 مليون شيكل لتطوير السياحة والبنية التحتية، بما في ذلك تنفيذ برامج تعليمية لزيادة الوعي بأهمية المواقع بين الجمهور (اليهودي)، وإنشاء الطرق وتأمين المواصلات، ووضع اللافتات، وإنشاء موقع سيكون بمثابة “بيت تراثي” أو متحف للآثار المستخرجة من الضفة الغربية. وتشمل الخطة أيضًا مبادرة لتطوير ما بين أربعة وسبعة مواقع ستكون بمثابة “مراسي” أو نقاط محورية للسياحة اليهودية في المنطقة.
كان لموضوع الآثار دور خاص في مشروع بناء الأمة الصهيوني منذ بدايات إسرائيل. كان لدى شخصيات بارزة، مثل يغائيل يادين -رئيس أركان الجيش الإسرائيلي خلال سنوات تكوين الدولة، ولاحقاً نائب رئيس الوزراء- شغف بعلم الآثار، مستنير بالرغبة في ترسيخ الصهيونية المعاصرة في الماضي التوراتي. في وقت مبكر هو سبعينيات القرن العشرين، كتب المؤرخ عاموس إيلون فكرته المعروفة عن أن “علماء الآثار الإسرائيليين لا يحفرون فقط من أجل المعرفة والعثور على الأشياء، وإنما يحفرون من أجل تأكيد جذورهم”.
مع ذلك، على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية أعاد اليمين الاستيطاني تشكيل الشغف الإسرائيلي بالآثار التوراتية ليتحول إلى علم آثار يرتكز على الحَرفية التوراتية، ويُستخدم كمبرر مركزي للمشروع الاستيطاني في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين. وفي محاولة لإثبات الأسبقية اليهودية في المنطقة الممتدة من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، تم تسليح المواقع التراثية واستخدامها في الصراع.
في هذه العملية، يجري الحفاظ على الآثار وعرضها بشكل انتقائي لخلق قصة انتماء تتمحور حول اليهودية، بينما يتم محو الفلسطينيين تمامًا من السرد التاريخي. وبناء على ذلك، يتم تصوير اليهود على أنهم السكان الأصليون للمنطقة بينما يتم تحويل الفلسطينيين إلى كتلة متجولة عازمة على تدمير الأدلة على الماضي اليهودي وسرقة الأرض من أصحابها الشرعيين. هذه هي الرواية المستخدمة لطمس الروابط الفلسطينية بالمواقع التراثية، ونزع الشرعية عن مطالباتهم بالأرض، وتهجيرهم من منازلهم وأراضيهم الزراعية.
مؤشر على ما سيأتي
هناك أكثر من 6.000 موقع أثري معروف في الضفة الغربية، وهي شهادة على الحضارات والثقافات المتعددة التي ازدهرت في هذه الأرض عبر تاريخ البشرية. وفي حين أن هذا التعدد في المواقع هو نعمة لعلم الآثار، فإنه يشكل نقمة للفلسطينيين لأنه أعطى المستوطنين والحكومة فرصة لتطوير المواقع الموجودة في أماكن استراتيجية في جميع أنحاء الضفة الغربية، والتي ستعمل كمعاقل مادية في الفضاء الفلسطيني وكصروح ذات ثيمات مختارة لإبراز التفوق الثقافي والتاريخي اليهودي.
تشكل صورة الفلسطينيين كشعب بلا جذور لا يهتم أبدًا بالتراث بناءً استيطانيًا آخر، وتقدم سبسطية مثالاً مفيدًا على ذلك. فقد تم تحديد تل سبسطية، وهو موقع أثري يقع شمال غرب مدينة نابلس، مع مدينة السامرة القديمة (شومرون)، باعتبارهما عاصمة مملكة إسرائيل في القرنين 9-8 قبل الميلاد. ويتميز الموقع أيضًا ببقايا فريدة من الفترات الهلنستية والرومانية والبيزنطية والإسلامية والصليبية. وتقع بعض المواقع من الفترات المذكورة الأخيرة داخل قرية سبسطية الفلسطينية المجاورة للتل الأثري.
يقع التل نفسه في المنطقة (ج)، التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، في حين تقع قرية سبسطية في المنطقة (ب)، التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية الفلسطينية المشتركة. وعلى مدى قرون، حافظ سكان سبسطية على أنقاض التل وتلك الموجودة داخل القرية واعتزوا بها، بطريقة تقدم مثالاً نموذجيًا لكيفية نسج نهج الحفاظ على التراث الأثري في نسيج حياة القرية. كان الموقع مصدرًا رئيسيًا لكسب الرزق للقرويين الذين يديرون المطاعم ومحلات بيع التذكارات، ويعملون كمرشدين سياحيين في الموقع. وأسفرت مبادرات الترميم التي قامت بها بلدية سبسطية وأشرفت عليها منظمة اليونسكو عن خطة مهنية للحفاظ على الموقع وإدارته محليًا، وتم وضعه أيضًا على القائمة المؤقتة لمواقع التراث العالمي كموقع فلسطيني.
لكن اليمين الإسرائيلي لا يمكن أن يقبل بأن يكون للفلسطينيين أيضًا مطالبات تاريخية بالأرض، ولا يمكنه الاعتراف بحقهم في إدارة مواقعهم التراثية. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، بدأ المستوطنون يظهرون بأعداد أكبر في تل سبسطية، برفقة الجيش. وأمر الجيش في مناسبات عدة بإزالة العلم الفلسطيني الذي كان موضوعًا على مدخل الموقع، على الرغم من أنه يقع في منطقة (ب). وخطة الحكومة الإسرائيلية لسبسطية التي كشفت عنها في أيار (مايو) هي في الأساس إعلان عن نيتها انتزاع الموقع من القرويين الذين يسمونه وطنهم، وفصلهم عن تراثهم وأراضيهم وسبل عيشهم.
تقدم حالة سبسطية لمحة لما ستكون عليه الأشياء القادمة. مع حكومة يتولى فيها حزب “عوتسما يهوديت” وحزب بتسلئيل سموتريتش الصهيوني الديني وزارات رئيسية في مجالات التراث -حيث عميحاي إلياهو هو وزير التراث وسموتريش نفسه يشرف على الإدارة المدنية، التي تشمل منصبًا في إدارة الآثار- لا يوجد أحد ولا شيء يوقف عملية للاستيلاء بالجملة على مساحات كبيرة من الضفة الغربية باسم الحفاظ على التراث.
في الواقع، أوضح إلياهو هذه النية بالذات عندما تولى الوزارة لأول مرة، عندما كتب: ”سيحصل التراث على جانبي الخط الأخضر على الحماية الكاملة… ستكون القمة هي حماية الأصول التراثية لأرض الكتاب المقدس والشعب الأبدي”.
يمكن استخدام المواقع الأثرية القديمة لتشكيل قصة قوية تخترق قلوب وعقول أولئك الذين يزورونها. وعندما يتم تقديمها كدليل مادي على قصة وطنية أو دينية، خاصة في سياق الصراع على الأرض، يتم تشجيع الزوار على إقامة صلة سياسية. واليوم، أصبحت مسألة الآثار، إلى جانب إضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية وتوسيع المستوطنات، إحدى الوسائل الرئيسية لتعزيز ضم الأراضي الفلسطينية.
تشكل حقيقة أن هذا العمل يتم باسم حماية الآثار والتراث وصمة عار أخلاقية على جبين حقل الآثار في إسرائيل. لم يعد بإمكان علماء الآثار من الجامعات الإسرائيلية الكبرى الذين يعملون في مواقع أثرية في القدس الشرقية والضفة الغربية تجاهل تواطئهم في عملية تسليح التراث. وقد حان الوقت لأن يقوم المجتمع الأثري الإسرائيلي ككل بتقييم الوضع واتخاذ موقف أخلاقي ومعنوي واضح: لم يعد الصمت خيارا.
*ألون أراد: عالم آثار والمدير التنفيذي لمنظمة “عيمق شافيه”، وهي منظمة غير حكومية إسرائيلية تعمل على الدفاع عن حقوق التراث الثقافي وحماية المواقع القديمة كأصول عامة تنتمي إلى أعضاء جميع المجتمعات والأديان والشعوب. تاليا إزراحي: منسقة العلاقات الدولية في “عيمق شافيه”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: nexation in the name of archeology
المصدر: الغد الأردنية/(مجلة 972+)