أيا ما كان مصير انقلاب “النيجر” الأخير، فلن تختلف القصة كثيراً ، ليس فقط فى بؤس أفريقيا المشهود ، والذى تبدو نقوش وشومه غائرة فى الجسد المثخن ، بل أيضا فى بؤس نهايات هيمنة الغرب بشقيه الأمريكى والأوروبى ، الذى احتل أفريقيا واستذلها وخربها واستنزف مواردها الطبيعية طويلا ، ونقل جزءا معتبرا من سكانها كعبيد عبر المحيط الأطلنطى ، ثم تكفل باعتصار الباقين ، ومسخ ميراثهم الثقافى الذاتى ، وحولهم إلى ببغاوات ناطقة بالفرنسية أو بالإنجليزية أو بالبرتغالية أو بغيرها ، ويكفى فقط أن تلقى نظرة على دول المنظمة الاقتصادية لغرب أفريقيا “ايكواس” ، التى هددت باستخدام القوة لإعادة رئيس “النيجر” المعزول “محمد بازوم” ، تشكلت “ايكواس” منذ العام 1976 ، وبلغ عدد دولها فى ذروة تضخمها 15 دولة ، بينها ثمانى دول ناطقة رسميا باللغة الفرنسية ، وخمس ناطقة بالإنجليزية ، وإثنتان ناطقتان بالبرتغالية ، ثم لا يستبقون من أفريقيتهم ، سوى لون البشرة السوداء ، إضافة لفولكلور غربى عن الديمقراطية والحوكمة والشفافية وأخواتها ، لم تقم حكما رشيدا ولا تنمية مستطردة ولا استقلالا للقرارات .
والقصة المقبضة معروفة للكافة ، فلم تبق من دولة فى غرب أوروبا ، لم تأخذ نصيبها من لحم أفريقيا ومواردها ، وكل ذلك تحت عنوان “رسالة الرجل الأبيض” ، ودور الأوروبيين “الإنسانى” فى دفع الأفريقيين درجات على سلم التحضر ، حتى أن الرئيس الفرنسى الأسبق “نيكولا ساركوزى” قالها بغير خجل قبل سنوات قليلة ، قال أن “الإنسان الأفريقى لم يدخل بعد إلى التاريخ” ، ومع أن العنصرية فاقعة فى كلماته الفواحة بالروائح النتنة ، إلا أنها ـ مع ذلك ـ تعرى دعاوى العنصرية الاستعمارية القديمة المتجددة ، التى زعمت نشر التحضر باحتلالها لعشرين بلدا أفريقيا ، وصورت “باريس” كعاصمة للنور ، بينما هى عاصمة الجماجم ، فقد قتلت ملايين الأفارقة العرب وغيرهم ، ثم أقامت متحفا للجماجم ، يضاف إلى متاحف وحدائق حيوانات بشرية ، أقامتها فرنسا “الحرة” للأفارقة العراة فى مدنها طويلا ، وكسبت مئات الملايين من دخل تذاكر الزوار ، ثم مسخت هوية الأفارقة بالحديد والنار ، واعتبرت شمال وغرب القارة “أفريقيا فرنسية” ، وعملت على تحويل الجزائر إلى قطعة من فرنسا ، عبر 130 سنة احتلالا ، لم يوضع لها حد نهائى ، إلا عبر كفاح دام خاضه الجزائريون بأجيال توالت ، زاد فيها عدد شهداء الجزائر على المليون ونصف المليون ، وهكذا فعلت فرنسا “الأم الرؤوم” بكل أفريقيا الشمالية والغربية ، إضافة لنزح متصل لموارد أفريقيا وثرواتها البكر الهائلة ، وأضافة “فوائض قيمة” رهيبة لحياة ونعيم أهلها ، تماما كما فعلت بريطانيا وبلجيكا والبرتغال وأسبانيا وإيطاليا والآخرون ، وإن تنوعت السير ، وكل ذلك من دون أن يرف لهم جفن “حضارى” ، ولا أن يوقفوا معزوفات التحضر الكاذب ، وقد ورثتها عنهم أمريكا بعد صعودها العالمى عقب الحرب الكونية الثانية ، وأضافت إليها وجها ضاحكا واستعمارا جديدا خبيثا ، يحقق أهداف النزح والنهب ذاتها ، ومن دون التورط غالبا فى احتلال عسكرى مباشر ، بل بالتلاعب وتوظيف النخب المتخلفة عن عهود الاستعمار الأوروبى ، وتدبير الانقلابات العسكرية حيث تفيد واشنطن ، أو التظاهر بنشر الديمقراطية فى أحوال أخرى ، ولم يكن السلوك الغربى الوحشى المنافق مقصورا على أفريقيا وحدها ، وإن نالت منه القارة البائسة أفدح العواقب ، ففرنسا التى أجرت تجاربها النووية الأولى فى صحراء الجزائر ، وتعتمد اليوم على “المفاعلات النووية” فى توليد 65% من طاقتها الكهربائية ، تأخذ “اليورانيوم” الأجود والأرخص من مناجم “النيجر” ، وتضئ به مدنها وقراها ، بينما تترك “النيجر” غارقة فى الظلام ، وتحدثك مع ذلك عن نعمة الديمقراطية فى “النيجر” ، وعن التصميم على دحر الانقلاب ، وتعلق الجرس فى رقبة “القط الروسى” الذى يزاحمها بأعلامه ، ويطردها من أراضى “عبيدها” السابقين فى “مالى” و”بوركينا فاسو” ، واليوم فى “النيجر” ، التى صارت ببركة المعونات الأمريكية والأوروبية سابع أفقردول العاالم ، ثم يحرسون الفقر والهوان ، بإقامة خمس قواعد أمريكية وفرنسية وألمانية فى “النيجر” وحدها .
ولأن الغرب عاش واغتنى ونهب بالزيف والتزييف المتصل ، فإنه لا يدرك ، ولا يعترف بفداحة جرائمه وسحقه لمليارات الناس فى أفريقيا وغيرها ، ويعتبر كل تذمر من سطوته تمردا على سلطانه الأعظم ، الذى ظل مسيطرا منذ سقوط “غرناطة” واكتشاف الأمريكتين سنة 1492 ، وتوسعت السيادة للغرب وحده على مدى قرون ، بقيادة الغرب الأوروبى غالبا ، وإلى أن انتقلت قيادة الغرب إلى واشنطن منذ أواسط أربعينيات القرن العشرين ، كان عالم المستعمرات الأوروبية السابقة ينهض ، وانتصرت حركات التحرير مستفيدة من الإنهاك الأوروبى ، وبدأ عصر كامل من “تحدى الغرب” ، كانت “حرب السويس ” 1956 أبرز محطاته ، لكن هزيمة نزعة التحرر والتنمية فى العالم العربى وأفريقيا ، والانقلاب عليها بالتواطؤ مع الأمريكيين ، أخرجت غالب الأفارقة والعرب من مجرى التحول التاريخى ، الذى كان قد قفز إلى مستوى جديد نهاية سبعينيات القرن العشرين ، وكان نهوض الصين الجبارة ، وقد كانت سابقا من مستعمرات الغرب ، هذا النهوض الصينى مع تجارب أخرى من حوله ، أو فى أمريكا اللاتينية ، دخل بتاريخ العالم إلى مرحلة جديدة ، تجاوزت معنى “تحدى الغرب” إلى معنى “تجاوز الغرب” ، وامتلاك ذات قوته المادية والتقنية ، ثم التفوق عليه ، وعبر عملية إعادة توزيع كبرى لموازين الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا ، وبالذات مع عودة روسيا من غربتها التاريخية بعد انهيارات موسكو الشيوعية السابقة ، وكل ذلك وغيره ، خلق ويخلق مشهدا جديدا بالجملة ، بدت ملامحه ساطعة مع “حرب أوكرانيا” ، وبالذات فى التطلع لتحطيم هيمنة الغرب التاريخية طويلة المدى ، والتحول إلى عالم متعدد الأقطاب ، كانت تأثيراته المبكرة تغزو عقل وقلب أفريقيا الغائبة عن التحولات الكبرى ، فعبر العشرين سنة الأخيرة ، تحولت الصين إلى أكبر شريك تجارى مع الدول الأفريقية بعامة ، وبلغ حجم تجارتها السنوية مع أفريقيا ـ عام 2022 ـ ما يزيد على 282 مليار دولار ، تتفوق بثلاثة أضعاف على حجم تجارة واشنطن مع القارة ذاتها ، وبلغت صادرات أفريقيا للصين ما يزيد على 117 مليار دولار ، فيما زاد حجم استثمارات الصين الأفريقية على 170 مليار دولار ، ولم يكن فى ذلك عجب ، فالصين هى أكبر شريك تجارى لأمريكا نفسها ، وفوائض الميزان التجارى لصالحها ، كما هى الحال مع أوروبا وجنوب شرق آسيا والهند وروسيا وأمريكا اللاتينية والعالم العربى ، والصين هى مصنع العالم الأكبر ، ونصيبها فى التجارة العالمية أكثر من 35% ، وجماعة “بريكس” التى تقودها الصين وروسيا ، صارت أكبر تكتل اقتصادى فى العالم ، ويفوق نصيب دولها الخمس فى الناتج العالمى نصيب ما يسمى “الدول الصناعية السبع” الكبرى ، إضافة لمنافسات التكنولوجيا والسلاح والرعب الذرى ، وكان طبيعيا ، أن يسمع صوت العالم الجديد حتى فى أدغال أفريقيا ، وأن يكتسى غضب الأفارقة من الظلم التاريخى بلون جديد ، فالبازغون الجدد ، ليس لهم أى ميراث استعمارى فى أفريقيا ، ولا دور فى تجارة العبيد ، ولا يملون على الأفارقة شروطا لكسب التحضر ، ولا يتدخلون فى شئونهم السياسية ، وهو ما شجع على اكتساب واستطراد نزعة أفريقية جديدة ، تريد طرد أرواح الغرب الشريرة من حياتها ، والانتقام من تبجح وعنصرية الاستغلال والسيطرة الغربية ، ومن فرنسا بالذات صاحبة أبشع ميراث احتلالى فى القارة السوداء ، وهو ما لا يريد الغرب المستعلى العنجهى المتأله ، أن يعترف بحقيقته ، ولا أن يسلم بتغير جوهرى يجرى فى أوساط النخب الأفريقية والأجيال الجديدة ، التى لم تعد راغبة فى شراء أوهام الغرب وأساطيره المزيفة ، وتريد أن تسترد أوطانها ، وما تبقى من مواردها الغنية ، وأن تخرج من دوامات الفقر والهوان ، ومن دون اكتفاء بطلاء الواجهات الديمقراطية الكذوب ، فلا ديمقراطية حقيقية تكتسب مع دوام المذلة وبقاء الأوطان رهينة ، ولا أمن يستقر مع تكاثر القواعد العسكرية الأجنبية ، حتى لو كانت المبررات التى تساق لإقامتها ، من نوع مكافحة “الإرهاب” ، الذى خلقه ويغذيه الغرب نفسه ، ثم يتخذه سببا لإدامة سيطرته على قرارات السياسة والاقتصاد ، وهذا الشعور الأفريقى الجديد ، هو الذى لا يجعل لدعاوى الغرب من سبيل سالك إلى القلوب والعقول ، ويجعل أعداء الغرب وخصومه فى عداد الأصدقاء للأفارقة تلقائيا ، وأيا ما كانت وجوههم ، حتى لو كانوا من جماعة “فاجنر” الروسية ، التى يتوسع اليوم حضورها فى “وسط أفريقيا” و”مالى” و”بوركينا فاسو” وغيرها ، وربما فى “النيجر” عن قريب ، فالغرب تحترق أعلامه وتداس صوره فى أفريقيا اليوم ، وإلى حد صار معه الغرب عنوانا قرينا لبؤس الأفارقة المستديم .
المصدر: القدس العربي