قرأت البيان الذي وقعته أكثر من 500 شخصية سورية بعنوان “بيان إلى الرأي العام من شخصيات وتشكيلات سورية في المنطقة الشرقية بخصوص تفاهمات الأحزاب الكردية على مستقبل الجزيرة السورية” المؤرخ في حزيران/ يونيو 2020، وهذه ملاحظاتي على البيان:
1- في اعتقادي، إن أول مسألة يُفترض أن تخطر في البال عند السماع بحدوث حوار بين أي طرفين سوريين هي الترحيب، خصوصًا في ظل التمزق الذي نعيشه، وبعد الترحيب يمكن وضع الملاحظات أو توجيه النقد.
2- قبل التوجه إلى الرأي العام بالبيان مباشرة، يُفترض توجيه رسالة مكتوبة إلى القوى السياسية الكردية المشاركة في الحوار، وانتظار جوابها، وهذا هو التقليد السياسي الصائب والحضاري، فإحالة الأمر إلى الرأي العام لا يُسهم في الحل بل في التجييش والتعبئة والتخندق، ما يوحي باستمرار عدم وجود آليات سياسية وتنظيمية وإدارية حديثة في تناول مشكلاتنا.
3- لم يذكر البيان من هي “التشكيلات السورية” التي وقعت على البيان، واكتفى بذكر الشخصيات السورية وصفاتها، وهذا مخالف لنصّ البيان الذي يبدأ بالقول “بيان إلى الرأي العام من شخصيات وتشكيلات سورية”. ما أعرفه هو وجود تشكيل رسمي اسمه “الائتلاف الوطني السوري”، وهنا تنبثق عدة نقاط وأسئلة:
أ- لم تلجأ الشخصيات الموقعة على البيان إلى التوقيع الفردي إلا لعدم ثقتها بالائتلاف أو ربما لأنه لا يملأ عين أحد، وطبعًا الائتلاف بوصفه حالة باهتة سيستوعب هذه الإهانة، ربما لأنه اعتادها، أو في الأحرى عوَّد نفسه عليها. هذا كان (ولا يزال) يستدعي أن تعلن الشخصيات الموقعة على البيان، بوضوح، رفضها للائتلاف واستمراره، وهو ما لم يحصل على الرغم من كل الكوارث السابقة.
ب- “المجلس الوطني الكردي” هو جزء من الائتلاف؛ هل ذهب إلى الحوار من دون علم الائتلاف أو موافقته؟ إن كان كذلك فيفترض أن يكون هناك إجراء تنظيمي من الائتلاف بحق المجلس، وهو ما لم يحصل. الغريب أيضًا هو مشاركة عدد من شخصيات الائتلاف في توقيع البيان، وهنا لا يدري المرء ما آلية الممارسة السياسية السائدة لدينا، إنها ليست أكثر من ممارسة الفوضى بكل أوجهها.
ت- هل سيخرج “المجلس الوطني الكردي” في حواره مع “الاتحاد الوطني الديمقراطي” عن تفاهماته التي استمرت 8 سنوات مع “الائتلاف الوطني”؟ إن كان كذلك، فما هي نوعية السياسة التي كانت تمارسها المعارضة طوال السنوات السابقة. أي ثقة يمكن أن نبنيها بكل الحراك السياسي لها طوال السنوات الماضية؟ وأي ثقة يمكن أن نبنيها بها مستقبلًا؟
4- يعيب البيان على القوى الكردية التفاهم فيما بينها، فهل يحق للقوى الكردية أن تعيب على أي قوى عربية حدوث تفاهم بينها؟ حدثت تفاهمات عديدة طوال السنوات التسع الماضية بين القوى الكردية نفسها، وبين القوى العربية أيضًا، وبين القوى العربية والكردية كذلك، وكل التفاهمات ذهبت أدراج الرياح، ولم يلتزمها أصحابها. لماذا يجري التعامل مع التفاهمات التي يمكن أن تحدث بين القوى الكردية اليوم وكأنها موثوقة وتختلف عن غيرها، وأنها ستتحول إلى واقع بالضرورة. ما أقصده هو إن الحوار السياسي والوصول إلى تفاهمات مشتركة هو آلية سياسية طبيعية، ومن حق الجميع أن يبادروا إلى الحوار، ومن حق الجميع رفض مخرجات أي حوار.
5- يُستغرب حقًا أن يُبنى البيان على معلومات مسربة، فقد جاء في البيان ” تشير المعلومات المسربة عن التفاهمات ما بين المجلس الوطني الكردي وميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي إلى توافق ما بين الطرفين على…”. كيف يمكن أن نوقع أو نجمع التوقيعات استنادًا إلى “معلومات مسربة”؟ هذا يشير، على أقل تقدير، إلى سذاجة التصور والممارسة السياسية. ربما لا يكون هذا مستغربًا، فمعظم الأداء السياسي طوال السنوات الماضية كان مرتكزًا على الشائعات والتسريبات والتصريحات والكلام المنقول والتوهمات وحديث الدبلوماسيين والسفراء.
6- في حال توصلت القوى الكردية إلى تفاهمات معينة، من هي القوى السياسية العربية التي ستدخل في حوار معها أو تلعب دورًا في عقلنة مخرجات الحوار؟ الواقع يقول: لا يوجد. لذلك، يُفترض ألا نبني طموحات كبيرة على البيان وتأثيره في مجريات الأمور، ولا على أي بيان، فالمشكلة نفسها ما زالت تدور حولنا من دون حل: لا يوجد طرف وطني سوري ديمقراطي، قوي ومتماسك ومنظم، ويملك ثقة جمهور واسع.
7- خطوة البيان الذي وقعته الشخصيات السورية تشبه خطوة ذاك الذي يدرس قبل الامتحان بيوم واحد، فيما هو يقضي العام كله بين اللهو واللعب. مرت تسع سنوات لم نستطع خلالها بناء تفاهمات ثابتة وراسخة بين القوى السورية كلها، وعندما جاءت اللحظات التي قد يراها بعضنا فاصلة بدأنا نركض يمينًا وشمالًا من دون بوصلة ولا هداية ولا ثقة بأحد.
8- يسير البيان على قدم واحدة فحسب، أي يحذر من “التفاهمات” من دون أن يقدم أي تصور بديل أو يضع معاييره أو يطرح طريقة مغايرة للحوار أو يفوض من يشارك في الحوار أو يخلق أي طريقة للدخول، بصورة حضارية، على خط الحوار الكردي. السير على قدم واحدة هو دليل على عجزنا جميعًا، وعلى الممارسة السلبية للسياسة، تلك الممارسة التي تكتفي برفض الموجود لكنها تعجز عن تقديم البدائل.
أخيرًا، هذا النص لا يتناول الأشخاص بل الأفكار والأداء، وهو ليس مجاملة لأحد، أصلًا لا يوجد من يستحق المجاملة بيننا بعد كل الخراب الذي نعيشه، وكلنا في حاجة إلى نقد أفكارنا وأدائنا، لذلك عندما تصبح بين يدي وثيقة رسمية مكتوبة أو منشورة معترف بها عن تفاهمات القوى الكردية سأقرؤها حرفًا حرفًا، ولن أبخل على أصحابها وعلينا بالنقد، من أجلهم وأجلنا، ومن أجل الجميع.
المصدر: صفحة الدكتور حازم نهار