الانفجار الداخلي السوري في “دولة القانون”

سميرة المسالمة

تزداد انقسامات النظام السوري وأزماته على مختلف المستويات الداخلية والخارجية، العسكرية والمدنية، لعل أخطرها أن النظام لم يعد يمكنه أن يعتمد على أنه محصّن داخلياً من مؤيديه، وهم أحد مكوّنات دفاعاته الداخلية (كما يدّعي) بعد قوات جيشه وأمنه، وهي كتلة المؤيدين “المتجانسين” لحربه المستمرة منذ ما يزيد على 12 عاماً ضد معارضيه، مضافاً إليها تشكيلات الدولة من حكومة ومجلس الشعب ومجالس محلية، التي جرى تركيبها بالصيغة المطلوبة لاستمرار التأييد المطلق لكل سياساته وآثارها على الشعب السوري. ذلك أن الأوضاع المتدهورة تباعاً، فكّكت، على ما يبدو، عُرى التحالف الداخلي السابق، وأطلقت العنان لصرخات الوجع أن يعلو صوتها، سواء عبر منصّات شخصية، أو عبر منصّات حكومية (مجلس الشعب)، وصولاً إلى تململ تلك المساحة الطائفية الضيقة التي تحرّك النظام “لحمايتها” في سياق تبريره حربَه على الشعب السوري، التي أخذ موقفها المؤيد بالانحسار تدريجياً باستثناءاتٍ تطاول المنتفعين شخصياً، والمنخرطين بالعمل العسكري المباشر، ومنتجي المخدّرات ومصنّعيها ومروّجيها وعابري الحدود، أي الذين يجلسون مع النظام تحت “مظلّة الكبتاغون”.

لم تقدّم الوقائع الجديدة التي رافقت مسيرة التطبيع العربي مع النظام السوري، والتي كان يعوّل عليها في أن تكون رافعة للاقتصاد السوري في مناطق النظام، للسوريين أي بارقة أمل. على العكس، تدهورت معيشتهم وازداد انهيار العملة من ثمانية آلاف ليرة سورية سعر الدولار الواحد من نحو أربعة أشهر إلى ما يزيد على 13 ألفاً مع فقدان معظم المنتجات السورية من الأسواق، ما زاد في المعاناة، بديلاً من حلحلة الوضع على كل المستويات، ومنها السياسية والاجتماعية، إضافة إلى الاقتصادية. حيث منح تطبيع بعض الدول العربية، من دون أن يكون لها أي تأثير سياسي في النظام يدفعه نحو الحلّ السياسي، الرئيس بشّار الأسد “نصراً مزيفاً”، غير قابلٍ للصرف اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، بل أدّى الاستعجال غير المدروس عربياً لهذا التقارب مع نظام معاقب دولياً إلى تفعيل الرقابة على تنفيذ العقوبات الغربية وتشديدها، والانحياز إلى تطويقه بعقوباتٍ جديدة. أي إن السوريين دفعوا ثمن صورة الأسد داخل أروقة اجتماع جامعة الدول العربية في جدّة، مزيداً من المعاناة والفقر، فيما لم يقدّم طرفا التطبيع (النظام والدول العربية) أي خطواتٍ للاستثمار الجدّي في تغاضي المجتمع الدولي عن هذه الخطوة، بل جرى التعامل معها في نطاق “المجاكرة” بين الدول، ما جعلها عبئاً إضافياً يُضاف على كاهل الأزمة السورية ومعيشة السوريين.

صحيح أن الجلسة الاستثنائية لمجلس الشعب السوري ردة فعل طبيعية يمكن لأي متابعٍ للشأن السوري قبل ثورة 2011 أن يجد مثيلاتها في محاضر جلساته، وأنها في كل المرّات لم تنصر السوريين في أيّ استحقاق، أي كانت مجرّد جلسات للتداول الإعلامي والتعويض المالي للمجتمعين، بيد أنه، هذه المرّة، يمكن تناول الجلسة التي عُقدت تحت مسمّى جلسة استثنائية، في 24 يوليو/ تموز الحالي، من كونها جلسة إخلاء مسؤولية من بعض الأعضاء أمام عائلاتهم، قبل أن تكون أمام الشعب السوري عموماً، حيث لم تعُد العائدات المأمولة من مثل هذه المناصب تكفي لحياة رغيدة لأسرهم، كما كان الوضع سابقاً، فلم تعُد الجهات التشريعية قادرةً على ممارسة دور الوساطة في الشؤون الإدارية والتنفيذية ذات العوائد الربحية “على بعضهم”، كما كان سائداً وقتاً كثيراً، حيث صارت تلك الأدوار منوطةً فقط بحاملي البطاقات العسكرية والأمنية، ما أفقد أعضاءً كثيرين الميزة الربحية لمنصبه، إلا أن هذا لا يقلّل من أنها كانت حاجة لشرعنة عمل المؤسّسة أمام مناصريها من السوريين.

ولكن ضمن معرفتي بواقع سير الأمور في سورية من خلال عملي الإعلامي سنوات طويلة، فإن مثل هذه الجلسات لا تفاجئ الحكومة التنفيذية، ما يعني أن رد رئيس الحكومة، حسين عرنوس، لمجلس الشعب في جلسته الاستثنائية، موجّه إلى الداخل السوري، وإلى دول الجوار العربية، والإقليمية المضيفة للاجئين السوريين، والمجتمع الدولي، مفاده بأن سورية لا تزال في خضم الحرب، لم تنزع بعد إلى السلام الذي يخوّلها أن تلتفت إلى مشكلاتها الصغيرة من فقر وجوع وفقدان للأمن وفساد على كل المستويات، والأهم تأمين مستلزمات الجيش لمتابعة حربه، وهو ما يلزم الناس أن يقنعوا بما يقدم لهم، من دون أي توقّعات بالأحسن، وهذه تحديداً الرسالة التي تريد سورية أن تقولها للذين يتحدّثون عن عودة اللاجئين، أنه ضمن الإمكانات التي لا تفي بخدمات الموجودين في سورية، لا يمكن فتح الأبواب للعائدين من اللاجئين، من دون أن تتحمّل الدول أعباء هذه العودة، على مقولة “من يفتح خزائنه نرحّب برفع الأعباء عنه”.

صراحة، خطاب عرنوس تُحسب له وليس عليه، لأنه لا يعتمد أسلوب الحكومات السابقة في أن يأمل الناس أن القادم أحسن، بل يضعهم أمام واقع خياراتهم السابقة، هذا هو واقع حكم الرئيس الأسد، وأن هدف سياسات الحكومة المحافظة على إدارة الصراع بما يمدّ عمر النظام السوري، وهو الواجب الذي يجب أن يكون نصب عيني كل مواطن، منظماً في هيئاتها الحكومية أو في خارجها. وضمن ذلك التبرير لهذه الحكومة، أو أي حكومة تنفيذية قادمة، كما شدد عليه في خطابه، الإيمان بانتفاء الفائدة من أي حكومةٍ لمصلحة السوريين. ومع ذلك، كان يمكن للحكومة السورية أن تقدّم ما يرفع بعض المعاناة عن الشعب من إصلاح نظامها الضريبي إلى تشجيع الاستثمار الوطني التي عملت عقوداً على وضع المنغّصات أمامه، على تغيير في سياساتها الاقراضية، والاستثمار في أراضيها الزراعية بديلاً من حرقها وتحويلها إلى كتل إسمنتية، إلا أن ذلك كله يتطلب عبارة بسيطة مستحيلة التحقق: محاربة الفساد بديلاً من مشاركة الفاسدين.

ضمن سياق الهروب مما تفرضه حالة السلم، وللتأكيد أن سورية لا تزال تعيش حالة الحرب، وضمنها حالة فوضى واختلال أمني، تسعى الجهات الأمنية لتسخين بعض المناطق السورية المكتظة بتنوعها الطائفي، جرمانا أو السيدة زينب مثالاً، أو التي أبرمت معها اتفاقيات تسوية (درعا)، لتعيد ترتيب أولويات السوريين إلى أن أمنهم يأتي في المرتبة الأولى، وأن الحديث عن أولويات اقتصادية لا معنى له، ضمن الواقع الأمني المتردّي، وهو الأمر الذي لم يعد يقنع عموم السوريين، بما فيهم الحلقة المقرّبة من النظام، التي تبتدع سيناريوهاتٍ حقيقيةً للتعبير عن غضبها، وهذا لا يأتي ضمن محاولات النظام السوري لخلط ما هو نفور حقيقي من سياساته، والتبعات الأمنية لذلك التعبير على السوريين، وبين محاولة دسّ بعض المرتزقة لنقد النظام لإقناع الناس بأن حرية الرأي “المصادَرة” لأعضاء مجلس الشعب، “متاحة” لعموم الشعب، وهي “الكذبة” التي يريدنا بعض “مثقفي” النظام تصديقها، من خلال انتقادهم الأوضاع، ومجابهتهم تغوّل أجهزته الأمنية بعبارة مضحكة “نحن في دولة قانون”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى