عند قيام ثورة 23 تموز/ يوليو كانت جميع الدول العربية تحت الهيمنة الاستعمارية، ووجود القواعد العسكرية، ومعاهدات جائرة تعزز النهج الاستعماري على البلدان العربية، وفي مقدمتها مصر، وثورة 23 تموز/ يوليو 1952 التي قادها جمال عبدالناصر بحكم وعيه السياسي والثقافي، كان لها بالغ الأثر على مصر في المجالات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها من المجالات، كما كان لها تأثيرها الهام والرائع على وعي الشعوب العربية بجميع البلدان العربية في معاداة الاستعمار والصهيونية، هذا التأثير الذي أدى إلى إسقاط العديد من النظم العربية المرتبطة بالاستعمار حينها.
وحسب ما يؤكده الكاتب والصحفي الأمريكي المعروف “ويلتون واين” الذي عاش لسنوات طويلة في مصر قبل ثورة 1952 وبعدها ورأى عن قرب ما يعانيه الشعب المصري من حرمان وعذاب وحياة مزرية تكاد لا تصدق، والذي كتب عن عبد الناصر وثورته كتابه الشهير ”ناصر العرب؛ البحث عن الكرامة” الصادر في العام 1959: (.. فإنك لو سِرت في القاهرة منذ سنوات “قبل الثورة” لما رأيت الكثير من الدلائل على أن مصر بلد عربي إسلامي، فالإعلانات وإشارات المرور كانت مكتوبة بالفرنسية أو الإيطالية أو الإنكليزية أو اليونانية ونادراً ما تسمع اللغة العربية، وحتى هندسة البناء كانت أوربية، ويوم العطلة في المنطقة التجارية كانت الأحد بدلاً من الجمعة، وفي الجامعات كانت الكتب والمحاضرات بالإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية أما العربية فكانت لغة الخدم والغلابى، وفي تلك الأيام كنتَ تستطيع أن ترتكب جريمة قتل وتنجو من العقاب شرط أن تكون أوربياً أو تحمل الجنسية الأوربية، وكان أسوأ شيء أن تحمل الجنسية المصرية؛ فنظام الامتيازات الذي كان يتمتع به الأوربيون يعني أن الغربيين لا يخضعون للقانون المصري ولا يُحاكمون أمام المحاكم المصرية ولا يدفعون الضرائب، وهذه الحصانة للأجنبي شجعته على أن يُهرّب السموم إلى مصر ويبيعها تحت سمع السلطات وبصرها على أنها أدوية، دون أن يخشى شيئاً، والجنسية الأوربية فوق ذلك كانت تحمي حاملها من المنافسة التجارية أو المهنية، وكان واضحاً أن طريق النجاح في مصر هو أن لا تكون مصرياً، وبالنسبة للأسرة الملكية الحاكمة فقد كانت أوربية، كان أفرادها يتكلمون الفرنسية أو الإيطالية أو التركية أو الإنكليزية، وكان القلائل منهم يعرفون العربية لغة البلد الذي يحكمون، وحتى في أيام الملك فاروق كانت الأميرات يتلقين الدروس باللغة العربية التي كانت تبدو غريبة عنهم، وعلى دين الملوك سارت طبقة الملاكين وأصبحت الفرنسية لغة الصالونات، وكانت السيدات يتباهين بجهلهن للعربية، لم يكن عند هؤلاء أي شعور نحو الرجل الذي يُمسك بالمحراث والذي يؤمّن لهم أسباب الترف بعرق جبينه، فحالة الفلاح المصري بالرغم من كل هذا الثراء لم تتبدل إطلاقاً، فقد كان كل همْ مالك الأرض أن يعصره ويعصره لينتزع كل قطرة منه ثم يحيلُ إليه جباة الضرائب ليجلدوه وينتزعوا منه كل شيء..).
وكما يقول الدكتور “إسماعيل صبري عبدالله” الخبير الاقتصادي المعروف والوزير السابق في مقالٍ له بعنوان “ثورة يوليو والتنمية المستقلة” بمجلة المستقبل العربي- العدد89 لسنة 1986: (.. فإن السيطرة الاستعمارية لم تكن احتلالاً عسكرياً فقط بل إن الثمانين ألف جندي بريطاني بمصر كانوا في الواقع يحرسون عملية استغلال اقتصادي بشع يتولاها الاستعمار العالمي، وكان النظام المصرفي بأكمله ابتداءً من البنك المركزي “البنك الأهلي” حتى أصغر البنوك تحت سيطرة رأس المال الأجنبي، وحتى بنك مصر نجح الاستعمار مستعيناً بالحكومة في أن يُقصي عنه القيادات الوطنية ويفرض عليه قيادة متعاونة مع الاستعمار ويربط نشاطه برأس المال الاستعماري، وكان كل نشاط التأمين في مصر بيد وكالات أجنبية أو فروع لها من شركات مصرية إسماً يسيطر عليها الأجانب في الواقع، والتجارة الخارجية كانت حكراً على الأجانب وقلة من المصريين تدور في فلكهم، فأهم الصادرات وهو القطن حوالي 85% منه بيد بيوت التصدير الأجنبية التي كانت تسيطر في الوقت نفسه على المحالج والمكابس، والتجارة الخارجية كانت تمثل بذلك الوقت 50% من الدخل القومي، أي أن نصف الدخل القومي لا تؤثر فيه يد وطنية ولا سياسة وطنية، أما مصادر الطاقة وهي أساس التصنيع وتطوير الزراعة فقد كانت هي الأخرى بيد الأجانب، فاستخراج النفط كان احتكار لشركة شل، واستيراد النفط ومنتجاته وتوزيعها بيد شركة النفط العالمية أو فروعها، ومحطات الكهرباء الحرارية الهامة كانت بيد شركات فرنسية أو بلجيكية، وكان للمصالح الاستعمارية الوزن الأكبر في قطاع النقل؛ وقناة السويس دولة داخل الدولة، وشركات النقل البحري والنهري يسيطر عليها الأجانب، والنقل العام بالقاهرة تملكه شركة بلجيكية، وكان الجزء الأكبر من الصناعة “رغم نموها المحدود” بيد الأجانب والمتمصرون، حتى صناعة النسيج المصرية دخلت مرحلة التعاون مع رأس المال الأجنبي الذي كان يسيطر على منتجات الصناعة المصرية وعلى المحلات التجارية الكبرى في البلاد..)، ويضيف (.. حول صحة المواطن وتعليمه المحكومة لعشرات السنين بسياسة “دنلوب” الشهيرة القائمة على تعليم العدد المحدود اللازم لتزويد الحكومة بالموظفين، أما التعليم العالي فكان الوصول إليه مقتصراً على أبناء الأسر الغنية، أما الخدمات الاجتماعية فكانت مقتصرة على بعض إعانات الجمعيات الخيرية، ولم تكن الدولة تعير الثقافة أدنى اهتمام؛ تلك كانت صورة مصر عشية الثورة وفق رأي الدكتور “إسماعيل صبري عبدالله”.
بعد الثورة تغير كل شيء، فأعادت الثورة مصر لأبنائها وأزاحت عن وجهها الجميل ظلام الليل الثقيل الذي هيمن على وادي النيل لمئات طويلة من السنين، وطردت المحتلين وأزالت الزمرة السياسية الفاسدة التي نصَّبها المستعمرون وتخلصت من طبقة الإقطاع وقوى الاستغلال الأجنبي والداخلي، وأعادت للمصريين كرامتهم وحريتهم وحقوقهم واستقلالهم وثرواتهم وإرادتهم الحرة المستقلة وثقتهم بأنفسهم، وحققت لهم مكاسب ومنجزات كبرى كانت بمثابة أحلام غير قابلة للتحقيق كتوزيع الأراضي الزراعية للفلاحين من خلال قانون الإصلاح الزراعي الذي حررهم من عبودية الإقطاع واستغلاله البشع وإزالة الفوارق الطبقية بين أبناء المجتمع، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وتحرير المرأة من الظلم الاجتماعي الذي كانت تتعرض له خلال سنوات الاستعمار، ونيل الطبقة العاملة لحقوقها الضائعة، وإجلاء الإحتلال الإنكليزي عن أرض النيل، ومجانية التعليم والتأمين الصحي والاجتماعي والمستشفيات والوحدات الصحية والمدارس والجامعات في كل مدينة وقرية، ووصول الكهرباء والماء النظيف إلى كل قرية من قرى مصر، وإقامة أكبر قاعدة صناعية في الوطن العربي والعالم الثالث تجسدت في بناء أكثر من 1200مصنعاً في مختلف أوجه الصناعة مما كان دعامة قوية لنهضة اقتصادية كبرى شهدتها مصر.
ثم بدأ التحول الاشتراكي بمفهومه الناصري الذي لا يتعارض مع ثوابتنا وقيمنا العربية والإسلامية، وبناء السد العالي كأعظم بناء هندسي في القرن العشرين، وغيرها الكثير، لتصبح مصر زعيمة التحرر الوطني والقومي العربي وفي العالم الثالث لحركات التحرر والاستقلال فيه، كل ذك بقيادة الخالد جمال عبدالناصر الذي غدا بطلاً قومياً وزعيماً لا يُنازع للأمة العربية خلال سنوات الكفاح اللاهبة في كل الوطن العربي وعلى مستوى العالم الثالث وفي كل أنحاء العالم خاصة بعد تأميم قناة السويس والتصدي للعدوان الثلاثي الغادر عام 1956، والوقوف بوجه الأحلاف الاستعمارية خاصة حلف بغداد، ومن ثم إقامة أول دولة وحدوية في التاريخ العربي الحديث بين “مصر وسوريا” عام 1958 تحت اسم “الجمهورية العربية المتحدة”؛ لتتكالب بعدها قوى الاستعمار الدولية وتنقض على الوحدة عبر أدواتهم بالداخل السوري، ولتتوالى مؤامراتهم عبر اليمن والأردن وجزيرة العرب متحالفة مع القاعدة المتقدمة لهم في فلسطين المتمثلة بالعصابات الصهيونية ليكملوا طوق تآمرهم في عدوان 1967 ليقطعوا طريق التقدم والاستقلال العربي.
ومنذ رحيل عبدالناصر في 1970 فإن أمتنا العربية تمر بأدق وأعقد وأصعب مراحلها التاريخية بسبب ما تتعرض له من هجمة إرهابية تكفيرية بربرية وهيمنة للقوى الأجنبية على قرارها السياسي والاقتصادي، وتسلط حكومات وأنظمة مستبدة عميلة معادية لتطلعات وآمال الجماهير العربية، فلا بد لها وهي أمة مكافحة مناضلة تأبى الخنوع والاستسلام لقوى الإرهاب والشر والظلام والإستبداد، وترفض الإحتلال والهيمنة الاستعمارية بشكلها الجديد على مقدراتها ومصيرها تتطلع لاسترداد حريتها ومكانتها وكرامتها وحقها الطبيعي في الحياة الحرة الكريمة، وتلملم تبعثرها وتُضمد جراحها النازفة وتعيد تنظيم صفوفها وتحشد طاقاتها، مسترشدة بمبادئ ثورة تموز/ يوليو القومية التي تحتفل الجماهير العربية وطلائعها وقواها الثورية الحية بذكرى قيامها الواحدة السبعون وبتعاليم وأفكار جمال عبدالناصر ومشروعه الوحدوي الحضاري النهضوي، لتتخلص مما هي عليه من ضعف وإحباط وتشتت وتجزئة، وتتمكن من إعادة تشكيل وصياغة مستقبلها الجديد الذي ينتظرها بعد الثورة العربية في 2011، وتتمكن من بناء دولتها العربية الديمقراطية الواحدة، دولة حقوق الإنسان والحرية والمساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية.
وكما في أغلب دول الربيع العربي- بتفاوت معروف- لا يخفى على أحدٍ منا طبيعة المرحلة الحالية التي نعيشها ويعيشها وطننا السوري، السعي الحثيث من قبل البعض لقتل الثورة السورية وتثبيت حكم الطاغية المجرم بشار أسد وعصابته والتطبيع معه، وقد أصبحت سورية مستباحة أرضاً وسماءً ومياهً لعديد قوى الاحتلال الأجنبية الحريصة على عدم إسقاط نظام العمالة والجريمة الأسدي، كسلطة فئوية طائفية عنصرية منحت لها من أعتى قوى الاستعمار وقيادتها المتمثلة بأمريكا والغرب وذيولهم في المنطقة من صهاينة وإيرانيين وميليشياتهم الطائفية من لبنانية وعراقية وفلسطينية وأفغانية فضلاً عن روسيا والصين، لمحاولة قطع طريق ثورة الحرية والكرامة السورية بعد حركات الردة بالكثير من دول الربيع الديمقراطي العربي؛ وأمام هذه الردة المحمية دولياً كانت انطلاقة موقع «الحرية أولاً» منذ ثلاث سنوات كمنصّة ناصرية قومية، توثيقية إعلامية مستقلة لمرحلة من تاريخ سورية شارك به حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي وقائده المؤسس الدكتور “جمال الأتاسي”، باعتباره حزب سياسي ديمقراطي وحدوي ناصري، ساهم برسم ملامح سورية العربية ودفع الحركة الوطنية الديمقراطية المعارضة طيلة عقود، وخشية التلاعب بتاريخها أكثر مما تم على أيدي من ذابوا تحت حكم البعث الفئوي وجبهته غير الوطنية وغير التقدمية فيما يتعلق بالمسألة الوطنية فضلاً عن القومية، وخشية استمرار وسيادة روح التبعية والتجزئة، كانت هذه الانطلاقة المتحرّرة من شروط التمويل السياسي الذي يحكم عمل المؤسّسات الإعلامية الوطنية والعربية السائدة عامةً والتي كان لها دوراً بارزاً بتشويه ومن ثم محاولة إفشال ثورات الربيع الديمقراطي العربي.
المصدر: موقع (الحرية أولًا)