ربيع الثورات العربية هو مآل سياسي وثقافي حتمي لعقود من تهميش الإنسان العربي، إنه نهاية رهانات أخيرة لجيل من أتباع عروبة لم تنجز النهضة المنشودة، عبر الأنموذج العسكريتاري الانقلابي وما رافقه من جرائم بحق المجتمع وتحكيم أقلية بأكثرية وعسكرة وسجون وقدسية فرد وتركيب عصبيات ما قبل وطنية.
وعليه، فلا يظنن أحد أنّ هناك لحظة عربية حاسمة تحتاج منَّا درجة عالية من الصدق مع النفس والوضوح في الرؤية مثل تلك التي مر بها ربيع الثورات العربية الجديدة، بموجتيه في سنتي 2011 و2019، ومآلاته التي رسمتها قوى الثورة المضادة.
إنّ الاحتلال الأمريكي للعراق وتداعياته منذ عام 2003 يؤشران إلى السقوط الأخير لنمط معين من الأنظمة العربية الديكتاتورية، هو سقوط أخير لمرحلة من السياسات التي تستعد للحروب وهي تهدّم وتدمّر مجتمعيها السياسي والمدني، وتقيم نظاماً فوقياً، ديكتاتورياً وفردياً. إنه زلزال لحظة في انهيار تاريخي شامل، لا بدَّ من دراسته بروية ونظرة نقدية واستخلاص دروسه وعبره. خاصة وأنّ الرسالة التي بعثها حراك الشعوب العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية والجزائر والعراق ولبنان والسودان تقول: إنّ الشعب اكتشف ذاته، وأكد حضوره بقوة على مسرح التاريخ، ليأخذ مصيره بيده. بعد أن بدا له أنّ قضية الحرية هي إحدى أهم قضاياه المؤجلة، فهو الأقل تمتعاً بالحرية بين شعوب العالم، إذ لم تنشأ في العالم العربي دولة الحق والقانون التي من شأنها أن تشكل ضمانة لحقوق الإنسان وحريته، ولم تراعَ إرادة المواطنين في تنصيب الأنظمة السياسية، فكان العقد الاجتماعي اعتباطياً ومفتقراً إلى الشرعية الدستورية، حتى أنّ دول العالم العربي اعتُبرت استثناء في عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة.
إنّ المقاربة العقلانية النقدية التي نعتمدها بشجاعة، في كل كتاباتنا ومواقفنا، هي التي سترتفع – كما نعتقد – بالرابطة العربية من المستوى التبشيري العاطفي، إلى مستوى القاعدة السياسية الثابتة في الفكر السياسي العربي. ويخطئ من يعتقد أنّ المسألة تنحصر في خطاب أيديولوجي معين، فتيارات الأمة كلها معنية بصياغة خطاب عربي عصري يستوعب مجمل التوجهات الحضارية والمدنية المعاصرة، ويستشرف مصالح وأهداف شعوبنا. وإننا إذ نمارس النقد العلمي للوعي العربي التقليدي نطمح إلى القطيعة مع كل ما هو متأخر فيه لربطه بالكونية والتقدم والديمقراطية، لأنّ هذا المضمون يشكل النقطة المركزية لمستقبل دولنا وشعوبنا.
إنّ المثقف النقدي يختلف عن أي داعية آخر في أمرين رئيسيين: أولهما، أنه يدعو إلى قضية وإلى مبدأ لا إلى حزب أو سلطة. وثانيهما، أنه ينتج معرفة ولا يردد شعارات ولغواً أيديولوجياً.
ولا شك أنه في عالم عربي يعاني من التأخر التاريخي، ويعيش في ظل شبه طلاق بين عالم السلطات الحاكمة وعالم المجتمعات العربية المُستَلبة، من الصعب جداً على أي باحث أو كاتب أن يزحزح المقولات والمفاهيم التي ترسخت عبر عقود من الزمن، لاسيما بعد أن أصبحت الدولة العربية، على اختلاف مسمياتها، قناعاً للاستئثار ولاحتكار السلطة. مما يستوجب إدراك بقايا هذه السلطات أنها هي بالذات من دفع الشعب نحو الثورة، إذ ثمة واقع الإفقار والتهميش، وهدر الثروات، ونهب الموارد، والحرمان من الحقوق والحريات الأساسية. وثمة تغوّل السلطات على المؤسسات والقانون والدستور، والحط من كرامات الناس، وامتهان مفهوم دولة المواطنين.
والثابت أنّ ذهاب الشعوب العربية إلى الثورة حصل لأنّ الحكام سدّوا آذانهم عن المطالبات بالإصلاح، ولأنهم أشاحوا بعيونهم عن معاناة الناس، وعن رغبتهم بالتغيير ومحاكاة العالم، ولأنهم فقدوا صلتهم بمحيطهم، وبواقع مجتمعاتهم، في ظل توهُّم العظمة الذي يتملك معظمهم.
وفي ظل الحديث عن السيرورة التاريخية لربيع الثورات العربية وإحداث تحولات عميقة في العالم العربي، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً، ما زلنا نلاحظ شمول الخطاب العربي على لغة إنشائية خطابية لا تقدم حلولاً ملموسة ولا تتعامل مع الواقع، خطاباً هائماً يسبح في فضاء واسع وفضفاض ولا يتعامل مع قضايا محددة وفق رؤى نابعة من قضايا الواقع ومشكلات وطموحات شعوبنا، مما أدى إلى ما نشهده من مآلات غير سارّة في بعض الأقطار العربية، ولعلَّ الكارثة السورية واحتضان النظام الرسمي العربي لرأس النظام السوري أبرز هذه المآلات.
إنّ مقاربتنا للسيرورة التاريخية لربيع الثورات العربية تريد القول بأولوية معركة التقدم والارتقاء الحضاري على ما عداها. فلو كانت مدارسنا وجامعاتنا من مستوى لائق، وبرلماناتنا تنهض بأدوارها التمثيلية والتشريعية والرقابية، وسلطاتنا القضائية تضمن العدالة للسكان بدل بيعها لمن يستطيع الشراء، ومواطنونا يستطيعون انتقاد حكامهم على نحو ما غدا شائعاً في الدول الديمقراطية، ولو كانت سجوننا خالية من سجناء الرأي والضمير. لو كان كل ذلك لما لاحقتنا الهزائم والانتكاسات منذ نكبة العام 1948 إلى مرحلة التشرذم التي نشهدها منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003.
إنّ الثورات العربية، التي تأخذ مداها كسيرورة تاريخية، لم تتحرك من موقع التعبئة الأيديولوجية بل استمدت زخم انطلاقاتها من مطالب الإصلاح الشامل وبناء الأوطان على أسس الكرامة والعدالة والنزاهة والمؤسسية الديمقراطية بكل ما تعنيه. وفي ضوء ما تنطوي عليه ثورات الشباب من تصميم على ترحيل بعض الأنظمة القائمة وإصلاح بعضها الآخر من الداخل، فإنه لا بديل عن الشروع المبكِّر لأصحاب الرأي والخبرة بمراجعة الوضع القائم وبلورة مقترحاتهم للإصلاح في مختلف المجالات.
ومن الواضح لجميع من يتابعون الوضع العربي الراهن أنه يمر في طور انتقالي، وأنّ النظم العربية جميعها تجد نفسها في مواجهة الحاجة إلى إصلاح جدِّي. ومن المؤكد أنّ هذا الطور الانتقالي سيفضي إلى قيام نظم تعيد إنتاج الدولة والسلطة والمجتمع في حاضنة المواطنة وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة والدولة المدنية، التي تكفل حريات المواطنين، بغض النظر عن دينهم أو انتمائهم الطبقي أو أصلهم، وتعاملهم كذوات قانونية حرة متساوية في الحقوق والواجبات، وفي فرص العمل والتعليم والتقدم. وكيفما ستجري الأمور، ستبقى معايير الدولة الوطنية الحديثة هي المرجعية الدستورية والديمقراطية الأولى التي سترنو إليها الشعوب العربية.