النزوع الشديد لمعظم السوريين نحو تشكيل أُطر ناظمة لأنشطتهم منذ انطلاق الثورة في آذار 2011، يمكن تفهّم دواعيه بيسر كبير بالنظر إلى عقود طويلة من التسلّط والتوحش فرضتها السلطات المتعاقبة على حكم البلاد، وقد أورثت تلك العقود الشعب السوري حالة شديدة من الحرمان يوازيها تعطّش كبير نحو إيجاد الأُطر التي تتيح للمواطنين ممارسة أنشطتهم والتعبير عن آرائهم بعيداً عن الخوف وخارج السراديب السرّية، وبالفعل شهد الفضاء السوري نشوء ما لا يمكن حصر عدده من الكيانات ذات التوجهات والتخصصات المختلفة: سياسية – حقوقية – إعلامية – إغاثية – رياضية… إلخ، فمن هذه الكيانات ما وُلد ميتاً في الأصل، إذ كانت الرغبة وحدها هي الحامل الذي لم يقوَ على النهوض، ومنها ما عُمِّرَ قليلاً ثم سرعان ما خبا وتلاشى دون أثر، ومنها ما يزال محافظاً على بقائه واستمراره مكتفياً بتحقيق أسباب استمراره حيّاً فحسب، ولكن ما يجمع بين جميع هذه الكيانات جميعها، سواء ما تلاشى منها أو ما يزال على قيد البقاء، هو عقمها الإنتاجي الذي لم يتح لها تحقيق أي منجز من شأنه أن يمنحها ثقة الجماهير من جهة، وكذلك لم يتح لها اختراق المسارات السياسية المفروضة على السوريين من الخارج من جهة أخرى، ولعل ندرة الفاعلية لتلك القوى مجتمعةً باتت مثار نقاشات وحوارات كثيرة بين الناشطين ومتابعي الشأن العام، إذ يجتهد كثيرون في تحديد أسباب وبواعث الشلل في فاعلية تلك القوى وحصرها بعدة أمور، لعل من أبرزها:
1 – وجود كيانات رسمية للمعارضة – سياسية وعسكرية – تحظى باعتراف سياسي إقليمي ودولي، كما تحظى بدعم جهات خارجية راعية لها، وهذه الكيانات تحاول مصادرة أي نشاط سياسي لا يخرج من عباءتها، كونها الممثل الرسمي للثورة السورية، بغية الاحتفاظ بدورها الوظيفي المُفرغ من أي بعد وطني، وفقاً لأصحاب هذا الرأي.
2 – يرى بعضهم أن السبب الأكثر فاعليةً في تبعثر القوى السياسية السورية التي نشأت على أعقاب الثورة هو تنابذها الإيديولوجي الذي يؤكّد عدم قدرتها على تجاوز تخومها الفكرية والعقدية السابقة، وكذلك عدم قدرتها على مواكبة واستلهام الوعي الجديد لثورة السوريين، ويرى أنصار هذا الرأي أن الثورة لا يمكن أن تنهض على حوامل الإيديولوجيات التقليدية التي كانت وما تزال جزءاً من عوامل الخراب.
3 – في حين يرى شطر كبير من السوريين أن تقاسم النفوذ الدولي الذي يحكم الجغرافيا السورية، ووجود سلطات أمر واقع تعمل بالوكالة للجهات الدولية ذات المصالح المتصارعة، يحول دون فاعلية أي عمل سياسي، فعلى الرغم من التباين الفكري والسياسي لتلك السلطات المتعددة، فإن ثمة منهجاً موحّداً لسلوكها قائم على امتهان كرامة المواطن وإقصاء الرأي الآخر وترسيخ الاستبداد.
4 – قسم كبير من ذوي التوجهات العلمانية واليسارية يرى أن اختراق قوى الإسلام السياسي للثورة بوقت مبكر هو ما قطع الطريق أمام القوى الديمقراطية وحال دون قدرتها على ممارسة أدوارها السياسية، الأمر الذي جعل مشهد الثورة مُحتلّاً بالمطلق من جانب قوى التطرف الإسلامي التي أحكمت قبضتها على مفاصل المال، ومن ثم المفاصل الميدانية (العسكرية والسياسية)، وذلك بفضل ما تمتلكه من شوكة القوة والسطوة، ما أتاح لها تجريف أي نشاط سياسي ديمقراطي لا يتواءم مع توجهاتها الإيديولوجية.
5 – ما يُجمع عليه القسم الأكبر من مناهضي نظام الأسد هو افتقار الحالة السورية إلى مظلة وطنية جامعة يكون قوامها كياناً سياسياً تأتلف تحت مظلته جميع القوى الوطنية السورية التي تسعى للتغيير، إذ إن وجود كيان كهذا – لو تحقق – سيكون مركز استقطاب لأنظار السوريين والمجتمع الدولي من جهة، وكذلك سيكون قادراً على انتزاع الوصاية من الكيانات الوظيفية الأخرى، ويرى أصحاب هذا الرأي أن عطالة العمل السياسي إنما تكمن في ارتهان القرار الوطني وتبعيته للأجندات الخارجية التي جعلت من القضية السورية بازاراً لمصالحها، وبالتالي فإن استعادة المبادرة الوطنية لا بدّ لها أن تحرّر إرادة السوريين وتوحّدهم للعمل ضمن إطار جمعي تشاركي، وهذا لن يكون سوى من خلال مزيد من التنسيق والعمل وفقاً لبرنامج عمل وطني موحّد.
وربما وجدنا آراءً تزيد على ما ذُكر إلى حدّ الإفاضة، وبعيداً عن نسبية الصواب أو عدمه فيما قيل ويقال، فإن ثمة سؤالاً يوجب التفكير: ما الذي يمكن الوصول إليه لو استطاعت القوى الوطنية أن تلتقي تحت مظلة جامعة ومشروع واحد؟ وهل سيكون منجزها التنظيمي المتمثل بالتنسيق بين بناها التنظيمية والعمل المشترك، فاتحاً لها آفاقاً أخرى من المنجزات، ومُؤْذناً بوجود سبيل جديد من سبل العمل الوطني قادر على اختراق حالة الاستعصاء الراهنة؟ بل لعل بعضهم يضيف قائلاً: ألم تشهد الحالة السورية خلال الأشهر القليلة الماضية العديد من التفاهمات التي تصل إلى درجة العمل المشترك بين العديد من القوى السورية؟ ألم نشهد لقاء (مدنية) في باريس، وكذلك (مؤتمر القوى الوطنية) الذي انطلقت فعالياته متزامنة من باريس وتركيا والداخل السوري، وكذلك شهدنا اتفاقاً بين المجلس السياسي لقسد وهيئة التنسيق الوطنية أفضى إلى وثيقة مشتركة، وقد سبق هذه اللقاءات المؤتمر الثوري العام الذي انعقد في مدينة عفرين في السادس من شهر أيار الماضي، ولئن كان من غير المنطقي الحكم القاطع والمسبق على تلك التجارب، إلّا أنه من الوجاهة السؤال عن الإرهاصات الأولية التي يمكن أن توحي بما يمكن الاطمئنان إليه، وفي سياق التساؤل هذا يمكن الوقوف عند نقطتين:
تتجسّد الأولى في مجمل الوثائق التي أنتجتها اللقاءات السابقة، إذ إنها – مجتمعةً – لم تتجاوز سقوفها حدود المطالبة بتنفيذ القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، إضافة إلى تأكيدها على وحدة الأرض السورية والإفراج عن المعتقلين وحق العودة الآمنة للمهجرين والنازحين، وهذا ليس خطأً بالطبع، ولا ضير من الوقوف عنده، ولكن المشكلة تكمن في أن جميع تلك القوى تدرك في قرارة أنفسها وفي أذهانها أن نظام الأسد بعيد كل البعد عن تنفيذ ما توجبه القرارات الأممية، وكذلك فإن درجة العقم الإنساني والأخلاقي المزمنة لديه لن تتيح له الاستجابة لأي مطلب إنساني يخص الشعب السوري، وبالتالي أليس من الأجدى التفكير بإيجاد وسائل وآليات نضالية جديدة لمواجهة نظام التوحّش وعدم المراوحة في المكان؟ ثم إن اكتفاء المؤتمرات واللقاءات المنعقدة بتكرار المطالب السابقة والركون تحت السقوف نفسها، ألا يجعلها تتماهى مع ما تتحدث عنه وتطالب به مجمل الكيانات الرسمية للمعارضة؟ ألم يكن الائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية وجماعة أستانا وسوتشي وووو، ألم يكن جميع هؤلاء – بعيداً عن الوقائع العملية لمساراتهم – يرفعون أصواتهم مردّدين المطالب ذاتها التي باتت قريبة من الحالة الشعاراتية؟ في حين أن انعقاد معظم اللقاءات المشار إليها يأتي ردّاً على ما يدعى بالدور الوظيفي للكيانات الرسمية.
ما من شك في أن التشعّب المزمن للقضية السورية سواء من الجانب الميداني المحكوم بسلطات وجيوش متعددة الانتماءات والأغراض، أو من جانب تحكّم الدول النافذة ذات المصالح بالعملية السياسية، يجعل الخيارات أمام قوى المعارضة محدودة وصعبة في آن معاً، ولكن هذا بحدّ ذاته ينبغي أن يكون حافزاً لمزيد من التفكير المتجدد وليس باعثاً على الاطمئنان.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا