“مسعى”… الطريق إلى الجمهورية الثالثة في سورية

حسان الأسود

تشهد الساحة السورية أكثر من حراك سياسي، ولم يقتصر المشهد الراهن على دبلوماسية إقليمية نشطة باتجاه إعادة العلاقات مع نظام بشار الأسد وإدماجه مجدّداً في المنظومة الإقليمية، بل تعدّاه ليشهد نشاطاً معارضاً لهذا التوجّه على الضفّة المقابلة من ساحة الصراع السوري. بدأ منذ توضحت معالم السياسة التركية قبيل الانتخابات التي ثبتت حزب العدالة والتنمية في الحكم والرئيس رجب طيب أردوغان في الرئاسة. ثم اشتدّ هذا التفاعل مع التطوّرات السياسية، إثر الانعطافة السعودية الكبيرة التي جرّت وراءها موقفاً عربياً شبه كامل نحو قراءة جديدة للملف السوري. ولا يغيبنّ عن البال أنّ الوساطة الصينية الكبيرة والمفاجئة بين السعودية وإيران هي صاحبة الأثر الحاسم في هذه الانفراجة الأخيرة. يريد الصينيون تجميد النزاعات في منطقة حسّاسة جداً بالنسبة لهم، فهي في قلب مشروعهم الجبار (الحزام والطريق) من جهة أولى، وهي من أهمّ مصادر توريد الطاقة اللازمة للماكينة الصينية العملاقة من جهة ثانية. بينما تعب السعوديون من حرب الاستنزاف المريرة التي ورّطوا أنفسهم بها في اليمن، وباتوا يبحثون عن الخلاص بأقلّ الخسائر، فيما يرى الإيرانيون أنّهم انتصروا وحقّقوا على أرض الواقع نظريّتهم بتصدير الثورة، فكانت النتيجة تصدير نظام الفوضى المعبّر عنه بدول المليشيات مقابل نظام الاستبداد الذي كان سائداً في دول عدة، منها اليمن وسورية والعراق.

ضمن هذه البيئة المليئة بعناصر الإحباط والتخذيل، وجدت مجموعات السوريين المعارضة نظام الحكم نفسها شبه وحيدة في الساحة، لكنّها لم تعلن هزيمتها بوصفها قوى عاملة في الشأن العام، وباحثة عن فرصة لتحقيق طموحات الشعب السوري الثائر ضد الاستبداد، ولو جزئياً. هكذا استجمعت شذرات الأمل المتبقّية، وفتحت طرقاً جديدة للعمل ضمن المساحات المتاحة قانونياً وسياسياً. لعلّ النشاط الحثيث للجالية السورية في الولايات المتحدة يظهر بعض جوانب الصورة، فهناك، حيث يمكن لمجموعات الضغط ممارسة دورٍ كبير في دوائر صنع القرار، تمكّن السوريون من إحداث خرقٍ ملحوظٍ على مستوياتٍ عدّة، فأصبح لهم مجموعة ضغطٍ تعمل بموظفين أكفاء من خريجي أعرق الجامعات الأميركية، متفرّغين تماماً لمتابعة الشأن السوري، فكان من إنجازاتهم مجموعة من القوانين ومشاريع القوانين التي تضيّق الخناق على النظام السوري وعلى مرتكبي الانتهاكات فيه، وأخيراً ثمّة مشاريع قوانين للملاحقة والمحاسبة الجنائية، جرى الإعلان عن طرحها على الكونغرس الأميركي بالتنسيق مع مناصري اللوبي السوري من الممثلين في كلا الحزبين، الجمهوري والديمقراطي.

كذلك تشهد الساحة السياسية السورية ما يمكن تسميتها “صحوة الضمير”، فتتابع مجموعات مختلفة التحضير لمؤتمرات عدّة ستُعقد أغلبها صيف هذا العام، أو في خريفه اللاحق. من بين هذا الحراك سيكون هناك مؤتمر القوى والشخصيات الديمقراطية، الذي يعمل على إنضاج شروط انعقاده العديد من السوريات والسوريين منذ فترة، وهو يحظى بدعمٍ ورعاية أوروبيين وأميركيين واضحين، تجلّت بتسهيلاتٍ ملحوظة قدّمها مركز أولف بالم السويدي. كذلك هناك اللقاء السوري الديمقراطي الذي بدأ القائمون عليه بتوجيه الدعوات للمشاركين فيه من القوى والكيانات السياسية والمدنية والشخصيات المستقلّة، وقد حدّدوا لانعقاده في برلين يومي 20 و21 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. وقد جاء في الدعوات الموجّهة للحضور أنّ اللقاء هذا سيجري برعاية ودعمِ الأكاديميتين البروتستانتيتين في لوكوم وبرلين، مع تأكيد لجنته التحضيرية على تمويله الذاتي، حيث طُلب من القابلين للدعوة والراغبين بالمشاركة تحمّل نفقات السفر والإقامة، بينما ستتكفّل القوى الداعية للقاء بتكاليف الاحتياجات اللوجستية خلال يومي المؤتمر. سيكون علينا الانتظار قليلاً، حتى نرى نتائج عمل هذين المؤتمرين العتيدين، مع أمل أن يكونا متكاملي النتائج والمخرجات، وقد يسعدنا القدر بتوحيد ما سينتج عنهما من رؤى وخطط عمل.

ضمن هذه السيرورة المتحرّكة، شهدت الساحة السورية أيضاً لقاءً ضمّ العديد من السوريات والسوريين في بروكسل يومي 17 و18 من شهر يونيو/ حزيران الحالي، وقد أعلن المجتمعون عن ولادة مجموعتهم التي أطلقوا عليها تسمية “مسعى”، وهي اختصارٌ للأحرف الأولى من عبارة “مجموعة سورية للعمل والرأي”، وقد حدّدوا في تصريحهم الصحافي النقاط التي يرون عملهم من خلالها، فكان أن ورد فيه: “… أقرّت المجموعة وثيقة سياسية توافقية بعنوان “الطريق إلى الجمهورية الثالثة” تتضمّن رؤيتها العامة، بعد نقاش جدّي وعميق ومسؤول. واتفق المشاركون في المجموعة أيضاً على متابعة الحوار خلال الفترة المقبلة، من أجل إنضاج آليات العمل الملائمة، وخطط العمل المرحلية، وجملة من الضوابط والمحددات التنظيمية التي تسهّل قيام المجموعة بعملها بأفضل السبل. تأمل “مسعى” أن يساهم عملها في تقديم ما يفيد القضية السورية ويخدمها، إلى جانب المجموعات السورية الأخرى، المدنية والثقافية والسياسية”.

وستتصدّى هذه المجموعة للاشتغال في الفضاء العمومي السوري، وستحاول، حسب إعلان القائمين عليها، إنتاج خطابٍ سياسي عقلاني متوازن، يشتبك مع الخطاب السائد، ويحاول تقديم شيء جديد مستندٍ إلى حجم المعاناة الكبير والتضحيات الهائلة والأثمان الباهظة التي دفعها الشعب السوري منذ 12 سنة خلت. وقد حدّدت “مسعى” لنفسها هدفاً استراتيجياً، يلخّصه تعبير “الطريق إلى الجمهورية الثالثة”، وهو ما لا يمكن مناقشته قبل طرح الوثيقة المعلن عنها للتداول العام والنقاش الحر. لكنّ الظاهر من العنوان يوحي بالمضمون، فالجمهورية الثانية كانت عنوان الاستبداد والقمع والقتل والتخريب الممنهج، ولا شكّ أنّ الجمهورية الثالثة ستكون، حسبما يظهر من إعلان أصحابها، عنواناً للولوج إلى عصر الكرامة والحرية والديمقراطية، أو عنواناً لأنسنة الدولة السورية. سيكون علينا أيضاً الانتظار قليلاً حتى نرى نتائج عمل هذه المجموعة، كما علينا أن نعطي القائمين عليها بعض الوقت لتقييم تجربتهم الجديدة، والتي نرجو أن تكون أيضاً خطوة نحو الخلاص على طريق الجلجلة ودرب الآلام الشائك، فهل تنجح “مسعى” في ما يسعى إليه القائمون عليها؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى