مدعوماً بالميليشيات، أصبح عادل عبد المهدي رئيساً للحكومة العراقية عام 2018. انتقل الحديث يومها عن دولة الحشد الشعبي من الدوائر الحزبية الضيقة إلى العلن، في ظل تدهور غير مسبوق للعلاقات الإيرانية الأميركية بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. كان الوضع الاقتصادي في إيران على وشك الدخول في غيبوبة، كان من شأنها أن تزيد من الصعوبات التي كان النظام الإيراني يواجهها بسبب العقوبات الأميركية.
ورغم أن تعيين عبد المهدي جاء بناءً على تسوية أميركية ــ إيرانية، غير أن الميليشيات وجدت فيه رجلها المناسب الذي سيفتح أمامها خزائن الدولة من أجل الإسراع في إنقاذ الاقتصاد الإيراني، إذا قررت الحكومة الأميركية تضييق الحصار على إيران. ما بين تشرين الأول (أكتوبر) 2018 وتشرين الثاني (نوفمبر) 2019 شهد العراق أكبر عمليات تهريب للعملة الصعبة إلى إيران، وهو ما ظهر جلياً في سوق العملات التي صارت تعاني شحاً في موجوداتها. كانت تلك السنة حاضنة لنجاح تجربة إدماج الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الإيراني في حال سيطرة ميليشيات الحشد الشعبي على الدولة، وبخاصة على الجزء الأعظم من وارداتها المالية نتيجة تصدير النفط في سياق إنفاق حكومي منظم يرعاه البنك المركزي العراقي من خلال سوق بيع العملة.
سنتان ونصف سنة للتّهدئة
أفسدت الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت العاصمة بغداد ومدناً عراقية أخرى في تشرين الأول 2019 خطة كان يجري إعدادها لانتقال السلطة إلى الحشد الشعبي. لم تكن تلك الخطة محكمة بسبب استبعاد عدد من الميليشيات التي كانت توالي إيران أكثر من غيرها. ومن أجل الإبقاء على النظام السياسي، اضطرت الأحزاب الشيعية إلى الاستعانة بمقتدى الصدر مكرهة. ولست في حاجة إلى الخوض في تفاصيل الدور الذي لعبه الصدر في إفشال الاحتجاجات، بعدما تبين أن عمليات القتل التي مارستها الميليشيات في حق المحتجين أدت إلى توسع دائرة الاحتجاج. كان ذلك الدرس عميق الأثر، وهو ما دفع الأحزاب إلى الموافقة على تعيين مصطفى الكاظمي رئيساً لحكومة التهدئة.
سنتان ونصف سنة كانت كافية لاسترجاع الأنفاس والعمل على سد الثغرات ومراجعة الأخطاء واستعادة السيطرة على مفاصل الدولة، من خلال بث الروح في هيكل الدولة العميقة الذي ترنح بسبب الفوضى التي سادت في الشارع العراقي. كانت الهيمنة على سلطة القضاء واحدة من أهم الخطوات التي مهدت لاستعادة الأحزاب السيطرة على نتائج انتخابات 2021، بغض النظر من نتائجها. كانت تلك خطوة استباقية في محلها. من خلالها نجح الخاسرون في الانتخابات في منع المنتصر مقتدى الصدر من تشكيل حكومته حين فرضت المحكمة الاتحادية عليه شرط الحصول على موافقة الثلثين من أعضاء مجلس النواب، وهو ما فشل فيه. ولأن الصدر لا يملك مهارات سياسية كافية لتذليل صعوبات التفاوض مع الأطراف الأخرى، فإنه لجأ إلى التخلي عن أصوات منتخبيه هرباً من مواجهة ستُغضب إيران، وهو ما لم يكن مستعداً له لأسباب طائفية.
الميليشيات تقضم أجزاءً من الدولة
رغم أن تحالف الإطار التنسيقي، وهو مجموعة الأحزاب الشيعية الموالية لإيران، يراقب عمل حكومة محمد شياع السوداني التي لا يفعل رئيسها شيئاً من غير أن يعرضه على التحالف، فإن الميليشيات التي هي واحدة من واجهات التحالف، وإن تميزت باستقلالها الإداري، ابتعدت قليلاً من التدخل في أعمال الدولة وسياساتها، ولم تعد تُظهر رغبتها في فرض إرادتها على الحكومة بالقوة كما كان يحدث في عهد الكاظمي. ربما أوحى ذلك بالاستقرار لولا أن الميليشيات كانت قد قضمت جزءاً كبيراً من أملاك الدولة وحيويتها الاقتصادية من خلال “شركة المهندس” (تيمناً بأبي مهدي المهندس الذي قُتل في الغارة الأميركية التي استهدفت موكب قاسم سليماني عام 2020). وقبل الدخول في تفاصيل عمل تلك الشركة، تجدر الإشارة إلى أن مخصصات الحشد الشعبي (مجموعة الميليشيات) ارتفعت في الموازنة الجديدة بنسبة 95%، كما أن عدد مقاتليه تضاعف بحيث صار لزاماً عليه أن ينقل معسكراته خارج المدن. أما “شركة المهندس” فإنها تأسست على غرار “شركة خاتم الأنبياء” التابعة للحرس الثوري الإيراني. في سياق عمل تلك الشركة التابعة للميليشيات، نُقلت ملكية أراض شاسعة إليها بموجب قوانين وُضعت من أجل البدء بتأسيس قطاع اقتصادي شبه حكومي، وليس من المستبعد أن يكون هناك نقل لملكية مؤسسات حكومية فاعلة على الصعيد الاقتصادي. فبعدما أُجريت تعديلات على خطة الاستيلاء على الدولة، لم تعد هناك حاجة إلى أن تمارس الميليشيات عملاً سياسياً مباشراً قد يضر بالعملية كلها، كما حدث أثناء حكم عادل عبد المهدي.
حكومة تحت الطّلب
ليست “شركة المهندس” سوى النواة لقيام إمبراطورية اقتصادية تابعة للحشد الشعبي. فالشركة تملك القدرة على التمدد من خلال الاستيلاء على مصانع الدولة ومزارعها وأراضيها، بذريعة إنجاز مشاريع خدمية هي جزء من البنية التحتية في المحافظات ذات الغالبية الشيعية. ولا تملك الدولة في ظل حكومة محمد شياع السوداني أدنى سبب للدفاع عن أملاك الدولة. فالسوداني عُيّن على أساس تفاهمات جرت في تحالف الإطار التنسيقي، كان من بينها إطلاق يد الميليشيات في الجانب الاقتصادي بما ييسر قيام الدولة الموازية الذي تأخر أكثر من خمس سنوات، بسبب الاحتجاجات وممانعة مصطفى الكاظمي الذي كان من الممكن أن يبقى في وظيفته لو أنه وافق على منح الميليشيات ذلك الهامش المريح. في حقيقة عمله، فإن السوداني يقوم بمهمة الوسيط العقاري الذي سبق له أن قبض ثمن عمله.
المصدر: النهار العربي