فيما كان حسن نصرالله بمقره السري يسرد للمطران بولس عبد الساتر، الرواية الخرافية التي تقول إن فؤاد السنيورة “كان يُعد مشروعاً لتهجير الشيعة اللبنانيين من لبنان الى جنوب العراق”، هكذا دفعة واحدة، مستأنفاً ومجدداً الأساطير الطائفية الطالعة من خوف وجودي، غائر في تواريخ غابرة تختلط فيها المآسي بالخرافات، والتي لا تحتاج إلى أي برهان أو وقائع حتى ترسخ في النفوس بإيمان عميق، تماماً كما اقتنع ذات مرة المسيحيون أن سفناً آتية لتنقلهم برمتهم من لبنان إلى المهاجر هرباً من المسلمين اللبنانيين والفلسطينيين، وآمن الدروز في يوم من الأيام أنهم سيتعرضون للإبادة.. لم يكن نصرالله في سرديته هذه يشك لحظة واحدة بما يقوله، فقناعته الطالعة من نظرته إلى العالم تصوِّر له أن كل “آخر” تهديد وجودي، وأن دوره هو إزالة هذا التهديد. وما الحياة سوى هذا الصراع الأبدي مع الآخر.
يعبئ نصرالله طائفته ويمنحها شعوراً أن عليها “القتال” باستمرار منعاً لمؤامرات التهجير الاستئصالي. ويضعها في حال حربية دائمة وحرجة: فأمامها العدو الذي يتربص لينقض. وخلفها “شركاء في الوطن” الذين يتأهبون ويتحينون الفرصة لتسديد الطعنة في الظهر.
وإذ باتت هذه هي “السياسة” الوحيدة المتاحة، فأقل ما يمكن فعله لـ”طمأنة” نصرالله وحزبه وطائفته، هو أن ترضخ الطوائف الأخرى بلا تلكؤ وتلبي رغباتهم، إن في تسمية رئيس جمهورية أو رئيس حكومة أو اختيار الوزراء أو قيادة الجيش أو حاكمية مصرف لبنان..واللائحة تطول. طبعاً، مع الالتزام الحرفي بالسياسات القضائية والديبلوماسية والأمنية والاقتصادية (وإذا أمكن الثقافية والإعلامية أيضاً)، التي توائم تلك العقيدة السياسية.
والحال هذه أفضت -بتدرج على امتداد نحو عقدين- إلى ما بات عليه لبنان دولة ومجتمعاً، الذي وصفه الرئيس “الأخير” بجهنم.
في تلك الليلة التي أفهم فيها نصرالله المطرانَ معنى “الرئيس الذي لا يطعن المقاومة في الظهر”، كان هناك حدث آخر وكلام مختلف على مبعدة كيلومترات قليلة منه، يجري في فضاء مفتوح بديع بطبيعته الخضراء وعمرانه العريق الحجري المهيب والوقور، ويطل برحابة على البحر المتوسط (بكل ما يعنيه الانفتاح على البحر). هناك، بالليلة ذاتها، في الحرم الشاسع للجامعة الأميركية في بيروت، كانت تجري احتفالية تخريج مئات الشابات والشبان، لا تمييز بينهم طائفياً أو سياسياً أو جندرياً أو عرقياً، يستأنفون ميراث مئة وثلاثة وخمسين جيلاً من الخرّيجين وهبوا لبنان والأوطان الكثيرة التي أتوا منها أفضل الكوادر والنخب وساهموا ببناء دول ومؤسسات وبتقدم مجتمعات وترقيتها وتحسين نوعية الحياة.
هناك كان الحديث عن صنع الموسيقى والشعر والثقافة والمعارف الجديدة وخلق الفرص والانهماك بالتحديات التكنولوجية والبيئية وتطوير العلوم والطب، وفوق هذا فهم الحضارات وقيم التعاطف وتفهم الآخر ومنح الأمل لشعوب المنطقة، وكان رئيس الجامعة يحدثهم عن “الروابط العميقة” التي تصنعها هذه الهموم وهذا النوع من التفكير.
لا غرابة في تزامن وتلازم المشهدين-الحدثين. فلبنان كان على الدوام ينازع بين التقهقر نحو التناحر الطائفي، أو التقدم نحو الازدهار الثقافي والعلمي والاقتصادي. وهو غالباً ما “برع” في الاتجاهين. وكما أدهشنا في التميز، أرعبنا في الانحطاط.
مع ذلك، كان لبنان الذي على صورة فضاء الجامعة الأميركية وطموحات خريجيها، يغالب الصورة الأخرى وينافسها. بل إن “المنافسة” هذه شكلت الديناميكية السياسية والفكرية، وفيها كمن سر بيروت أولاً، ومنها أغلب “سحر” لبنان.
المخيف فقط، أن يتلاشى المشهد المبهج من أرض الجامعتين الأميركيتين (A.U.B) و(L.A.U) والجامعة اليسوعية، ويبقى فقط وحده مشهد خريجي أساطير الاستئصال والتهجير والإبادة والخوف من الآخر (أو الأصح، تخويف الآخر).
ففي هذه الحال: لنحزم الحقائب.
المصدر: موقع المدن