لم يعد السؤال اللبناني الأهم سابقاً لأوانه: ليس المطروح هو ما اذا كان النظام السوري سيعود مجدداً، بل متى وكيف ستكون تلك العودة المظفرة، الثالثة او الرابعة منذ منتصف السبعينات، والتي لن ينفيها القول الشائع في بيروت، عن أنه لم يغادر أصلاً لكي يعود، بدليل وجود حلفائه الاقوياء الكثر الذين لن يغادروا الى مكان في المستقبل المنظور.
جلسة الاربعاء النيابية المقررة لانتخاب رئيس للجمهورية، يمكن ان تسهم في الاجابة على هذا السؤال الحرج، والمسكوت عنه حتى الآن، مهما كانت نتيجة التصويت، وكيفما كانت طريقة تعطيل الجلسة البرلمانية، التي لم تصمم أصلاً لهذا الغرض، لكنها معنية حتماً بقياس قوة حلفاء النظام السوري، وكشف الكثير من توجهاتهم في المرحلة المقبلة.. في ضوء العلاقات الثنائية التي شهدت في السنوات القليلة الماضية عمقاً لم يسبق له مثيل، على المستويين الرسمي والشعبي، وتلقت في اعقاب موجة التطبيع العربي الاخيرة مع دمشق دفعاً استثنائياً لا يمكن إنكاره، يضع أي مسؤول لبناني يتعاطى مع هذا الملف في موقع حساس، على الرغم من أن أيا من العواصم العربية لم تضغط على لبنان لكي يحذو حذو ها، ويزيل آخر الحواجز النفسية والحدودية اللبنانية السورية. لكن مثل هذا الضغط آت لا محالة، ولن يلقى مقاومة تذكر، بل هو سيزيد حلفاء دمشق قوة ومصداقية، تحت عنوان “حقائق التاريخ والجغرافيا”، ووقائع الديموغرافيا أخيراً.
لا يمكن لأي لبناني ان يجادل في أن لبنان كان متنفسا حيوياً للنظام السوري طوال السنوات ال12 الماضية، وما زال. والمؤكد ان دور الرئة اللبنانية في حماية النظام، تضخم مع وجود نحو مليوني لاجىء سوري على الاراضي اللبنانية، ثلثاهم من الموالين للنظام او من مموليه، الذين استهدفتهم العقوبات الاميركية والغربية تحديداً، لكنها لم تعطل حركتهم. يضاف الى ذلك ان تلك الرئة تتنفس ايضا بهواء لبناني يفترض ان من حق رجال الاعمال اللبنانيين ان يكونوا شركاء في عملية بناء سوريا، ومن حق بيروت ان تكون، ممراً إلزامياً لمثل هذه العملية أكثر من باريس مثلا التي بنت ولا تزال تبني سياساتها وخياراتها اللبنانية على هذا الاساس، وكأنها في سباق محموم مع الكثير من العواصم العربية والاجنبية الطامحة للعودة الى السوق السورية.
دور بيروت جوهري في هذا السياق. والتقدير اللبناني-الفرنسي المشترك يتوقع أن تصبح العاصمة اللبنانية قاعدة متقدمة لأي عملية إعادة بناء لسوريا، ويغفل حقيقة ان الجمع بين الخراب اللبناني والخراب السوري، من دون أفق سياسي واقعي وسليم لاستقرار البلدين لن ينتج سوى سراب مخيب، يزيد من صعوبة العثور على حلول وتسويات للازمات البنيوية التي تعاني منها الدولتان اللبنانية والسورية في هذه المرحلة، ويبعد أي استثمار سياسي عربي او دولي في لبنان وسوريا معا، حتى ولو تقدم الاصلاح السياسي والاقتصادي في أحد البلدين على الآخر. وهذا أمر مستبعد أصلاً.
لا يعترف أحد بذلك الربط، الآن على الاقل، لكن الوقائع السياسية يمكن ان تجعله أمراً واقعاً، كما يمكن ان تعطي زخماً جديداً لمقولة الشعب الواحد في دولتين، التي تكاد تصبح حقيقية، وتجد من يدعمها في لبنان، من دون الاخذ في الاعتبار ان التوجه اللبناني الى سوريا يمكن ان يجرف لبنان في دوامة خطرة أكثر من دوامة التورط اللبناني المباشر في الحرب الاهلية السورية.
لن يتوجه كثيرون من اللبنانيين الى الجار السوري، لكن سوريا هي التي ستوسع حضورها اللبناني، على قاعدة تطوير إستثمارها الناجح في اللاجئين، والعمل على محو الحدود المصطنعة بين البلدين والشعبين، تمهيداً لتحديث الدور السوري، السياسي والاقتصادي والمالي في الداخل اللبناني، من دون الحاجة الى “ردع” عسكري او أمني، بل بالاعتماد فقط على حلفاء لبنانيين يحصون بدقة عدد الاصوات السورية الحاسمة في أي انتخابات لبنانية، ويمثلون ما يقرب من نصف الشعب اللبناني، حسب تقديرات النصاب في جلسة الاربعاء البرلمانية.
لن يعود الجيش السوري بالضرورة الى الاراضي اللبنانية، قبل اعادة بنائه مجدداً، لكن النظام عائد بلا شك، بقوة الامر الواقع السوري الذي أرسله الى لبنان في السبعينات ثم الثمانينات ثم التسعينات…
المصدر: المدن