لم يحل الليل بعد، كما قال بوب ديلان، لكنه يصل. وفي غمرة توقي إلى رؤية ضوء في نهاية النفق، أسأل الخبراء عما إذا كانت هناك صحف تخالف هذا الاتجاه. يذكر اثنان نفس الاسمين: “بي آند جيه” Press & Journal في أبردين، و”كوريَر” Courier في دوندي. وكلتاهما مملوكتان لشركة “دي. سي. توماس”، الشركة العائلية التي اشتهرت بنشر مجلة “بيانو”. وفي الرسم البياني لمبيعات المملكة المتحدة للصحف اليومية الإقليمية، فإن صحيفة “بي أند جيه” هي الرقم 1، و”كورير” هي الرقم 3. من الواضح أن الوقت قد حان لركوب قطار.
في المحطة في دوندي، أدفع 1.55 جنيهًا إسترلينيًا لشراء نسخة من الـ”كورير”. وهي مباشِرة، لكنها راقية وعقلانية أكثر من كونها مثيرة، وهي محلية بلا ريب وعن تصميم. وللوصول إلى مكتبها، ما عليك سوى السير إلى داخل المدينة وليس التوجه إلى منطقة صناعية في الضواحي. ووسط المدينة عبارة عن مجموعة من الصروح المدنية: المتحف، والمدرسة الثانوية، والجامعة، والـ”كوريَر”، وهي مبنى جميل من الطوب الأحمر يضيء في شمس الشتاء الباهتة.
ينزل رئيس التحرير، ديفيد كليغ، إلى مكتب الاستقبال ليقابلني، مرتديًا سروال جينز ممزقًا وقميصًا كستنائيًا. يبلغ من العمر 40 عامًا وينحدر من بلفاست، حيث أصيب بحمى الصحافة كفتى توصيل صحف، يقوم بتسليم صحيفة “بلفاست تلغراف”. وانضم إلى الـ”كورير” كمراسل شاب، ثم انتقل إلى “الديلي ريكورد” في غلاسكو، ليصبح “الصحفي السياسي” للعام لـ”جوائز الصحافة الاسكتلندية” في السنوات 2014، و2015، و2017، و2018؛ وفي العام 2018، سُمّي “صحفي العام” عن سبقه الصحفي عن الوزير الأول السابق، أليكس سالموند، الذي كان يواجه مزاعم بالاعتداء الجنسي. وفي العام 2019، عاد كليغ إلى الـ”كورير” كرئيس للتحرير.
عندما أسأل لماذا ما تزال الصحيفة المطبوعة كبيرة في دوندي، يتضح أن القصة ليست تمامًا كما تبدو. يخبرني كليغ: “يجب أن أقول أن وصف الوظيفة كان بصراحة قيادة تحوُّل رقمي. في السنوات القليلة الماضية، أعدنا تنظيم غرفة الأخبار بالكامل، واستثمرنا كثيرًا في المهارات الرقمية والتدريب الرقمي والمنتجات للموقع الإلكتروني. كل مَن ينشئ المحتوى تقريبًا يقوم بإنشائه بينما يضع المسألة الرقمية في الاعتبار، ثم هناك فريق يقوم بتحويل ذلك إلى صحيفة، بينما في السابق كان العكس هو الذي يحدُث. الـ’كورير‘ هي منتج مطبوع مربح للغاية، لكن مستقبل الأخبار رقمي. الطريقة التي أفكر بها في الموضوع هي أن الصحيفة الورقية هي عبارة عن مَدرَج، يُستخدَم لجعل منتج رقمي مكتفٍ ذاتيًا يُقلع عن الأرض. ونحن لدينا مدرَج أطول قليلاً من البعض”.
تحتوي العديد من الصحف المحلية على مواقع إلكترونية مجانية القراءة ومليئة بالإعلانات. لكن كلاً من الـ”كورير” و”بي آند جيه” سبحتا ضد التيار، فتخلتا عن الإعلانات، وهما تتقاضيان 5.99 جنيهات إسترلينية في الأسبوع كرسم اشتراك. يقول كليغ: “لقد وصلنا إلى 25.000 مشترك رقمي في الصحيفتين معًا، وبعضهم يدفع مبلغًا إضافيًا مقابل الصحيفة الإلكترونية”.
تحدث لي عن الـ”كورير” اليوم، التي لديها إصدارات منفصلة لكل من منطقتي فيفي، وبيرث، على الرغم من أنهما تقعان على بعد 20 ميلاً فقط من دوندي. القصة الرئيسية في هذا العدد عبارة عن مقابلة مع فتاة تبلغ من العمر 12 عامًا من فيفي تتحدث عن تعرضها للتنمر، مدفوعة بحملة تنظمها الـ”كورير”. هذا عمل شجاع، أقول. ويعلّق: “جدًّا”.
مقالات النعي أكثر تقدمًا هنا مما هي عليه في معظم الصحف الأخرى، والسياسة الوطنية عادت أبعد إلى الوراء. “أنا مهتم بما سيدفع الناس مقابله، وهو بشكل عام أشياء عالية الجودة، مثل التقارير الصحفية من المحكمة. إننا نتواجد هناك في كل محكمة في رقعتنا”.
يستخدم ليغ شبكة الإنترنت، بمساحتها غير المحدودة، لتقديم خدمات إضافية مثل نشر قوائم الطعام في المدارس. “ما تجده، مع ذلك، هو أنه بغض النظر عن الفريق -الفريق الصحي، فريق المدارس، النعي على وجه الخصوص- سوف يسأل الأشخاص الذين تتعامل المواد معهم دائمًا: ’متى سيظهر هذا في الصحيفة الورقية‘؟ ما يزال لهذه النسخة مستوى من الاحترام والمكانة والهيبة”.
في صباح اليوم التالي، أكون في أبردين، أشتري صحيفة “برس آند جورنال” مقابل 1.65 جنيه إسترليني وأقرؤها أثناء الإفطار في مطعم “برِت”. مثل الـ”كورير”، تشع هذه الصحيفة بالحشمة. المادة الرئيسية من المحاكم: “سرق اللص القاسي امرأة متقاعدة بينما كانت تنتظر سيارة الإسعاف”. وهي قصة نمطية -سوى أن اللص كان امرأة.
يقع مكتب “بي آند جيه” في وسط المدينة، وهو مبنى عصري أنيق محاط باللون الرمادي المهيب. أراني المحرر، فرانك أودونيل، المنظر من شرفة السطح. وقال ضاحكًا بينما يشر إلى مبنى مجلس المدينة المجاور، “هذا ثاني أكبر مبنى من الجرانيت في العالم”. ولدى “بي آند جيه” بعض الميزات الخاصة بها أيضاً. بالإضافة إلى كونها الصحيفة اليومية الإقليمية الأكثر مبيعًا في بريطانيا، فإنها الصحيفة الأقدم أيضًا. تأسست في العام 1748، واحتفلت للتو بعيد ميلادها الـ275 -وبأول فوز لها كـ”صحيفة العام” في “جوائز الصحافة الاسكتلندية”.
نشأ أودونيل، البالغ من العمر 52 عامًا والذي ما يزال يحتفظ بشبابه، في إدنبرة، وكان أيضًا فتى توزيع صحف، حيث كان يسلم صحيفتي “سكوتسمان” و”إيفننغ نيوز”. ولم يكن والداه مشتركَين في صحيفة، لكن “والديّ أحد الأصدقاء كانوا يحلّون الكلمات المتقاطعة ويفتحون الصحيفة، التي أثارت اهتمامي”. وككاتب عن كرة قدم في البداية، ثم كمراسل عام، قطع كل الطريق من توزيع “سكوتسمان” إلى رئيس تحريرها. وفي العام 2019، اختطفته “بي آند جيه”، وهي صحيفة ذات اسم أصغر ولكنها أكبر حجمًا، تبيع 26.746 نسخة يوميًا مقابل 8.762 تبيعها “سكوتسمان”.
يقول أودونيل: “لدى ’سكوتسمان‘ جمهور أكبر بكثير رقميًا. ثلاثون في المائة من مشاهدات صفحاتها تأتي من خارج البلد –لقد حصلَت على ذلك الاسم. بينما تعتبر ’بي آند جيه‘ صحيفة أكثر إقليمية، وقد أراد مالكوها الاستثمار في تطوير اشتراك رقمي مناسب. أزلنا جميع الإعلانات من الموقع وحاولنا حقًا تغيير المحتوى. كنتُ قد قضيت مسيرتي كلها في العمل من الصفوف الخلفية، وهنا رأيت فرصة لأترك وقد أصبح عنوان الصحيفة في مركز أقوى مما كان عليه عندما دخلت”.
يرتدي أودونيل ملابس أكثر تقليدية مقارنة بكليغ. ولكن، ثمة وراء الياقة المنشأة وربطة العنق ثوري لطيف. ليس لديه مكتب لنفسه، ما يعني أن يكون دائمًا بين موظفيه. ولا تحتوي غرفة اجتماعاته على مقاعد ولا أبواب، فقط ثلاثة أبواب مفتوحة. “قف، حتى تكسب المزيد من الطاقة ويستطيع أي شخص الانضمام. ثلاثة مداخل، لذلك إذا حدث شيء وأردت معرفة المزيد، يمكنك أن تنادي على أحد ما”. ويضيف لاحقًا: “القيادة تدور حول التمكين”.
غرفة الأخبار مليئة بالنباتات ولوحات بيانات النتائج، التي لا تسرد القصص الأكثر قراءة فحسب، وإنما تلك الأكثر احتمالًا لأن ترسل القارئ إلى الصفحة الفرعية. الهدف هو بلوغ 75.000 مشترك رقمي في ثلاث سنوات بين الصحيفتين، وهم في الطريق إلى هناك. يقول أودونيل: “أنا منشغل جدًا في جعل هذه العناوين (أسماء الصحيفتين) تعمل، لكنني أيضًا منخرط جدًا في جعل الصحافة تعمل. لا أريد أن نفوز نحن ويخسر الجميع. إذا تمكنا من توفير مسار يمكن لعناوين أخرى أن تتبعه، فسيكون ذلك شيئًا قويًا للغاية”.
ذكر المحررون الذين عرفتهم الجيد، والسيئ، والقبيح، والموجود بالكاد. وأغادر اسكتلندا وأنا أشعر بأن كليغ وأودونيل اثنان من الأفضل؛ كلاهما لطيف وفعال، ويوظف كل منهما أكثر من 100 صحفي بينما العديد من الصحف المحلية تموت ميتة تأتي من ألف جرح.
يمكن أن تكون هناك مبالغة في التقارير عن وفاة الصحيفة. ويتمسك معجبوها بالأمل في أن تكون، كما يقترح مكابي، مثل “إسطوانة الفينيل” –التي عادت الآن من النسيان وأصبحت تتفوق على القرص المضغوط (السي دي). أو، الأفضل من ذلك، مثل السينما، التي انخفضت مبيعاتها من 1.65 مليار تذكرة كانت تباع في المملكة المتحدة في العام 1946 إلى 54 مليون تذكرة فقط في العام 1984، ثم انتعشت مرة أخرى لتعود إلى 150-170 مليون تذكرة ثابتة (قبل الوباء).
ما تزال الصحيفة المطبوعة تنطوي على هيبة، كما يقول تورفيل. لن تسمع أبدًا أحدًا يقول إنه يريد رؤية اسمه على الإنترنت. وربما يكون للصفحة الأولى للصحيفة الورقية عدد قراء أقل من “الصفحة الرئيسية” لموقع الإنترنت، لكنّ لها تأثيرًا أكبر. عندما تهبط الصحف على موقع “تويتر”، في حوالي الساعة 10 مساءً، فإنها تصنع موجات. لكن الصحيفة المطبوعة لا تُنسى، قابلة للاستكمال، ويمكن الاحتفاظ بها: ليس من السهل وضع “الصفحة الرئيسية” لموقع صحيفة في إطار.
يوجد على رفوفي كتاب توم وولف المعنون “الكلمة المطبوعة” The Painted Word (1975)، الذي يبدأ باقتباس من مارشال ماكلوهان، خبير الإعلام. يقول ماكلوهان: “الناس لا يقرؤون طبعة الأحد من (صحيفة) ’نيويورك تايمز‘، إنهم ينزلقون فيها مثلما يفعلون في حمام دافئ”. هل يعامل أحد موقع “النيويورك تايمز” nytimes.com، مهما كان مثيرًا للإعجاب كما هو حاله، باعتباره حمامًا دافئًا؟ أتذكر أنني قرأت ذات مرة أن متوسط الزيارة للموقع الإلكتروني كان نصف دقيقة، في حين أن متوسط الوقت الذي يتم قضاؤه مع الصحيفة المطبوعة كان نصف ساعة.
الصحيفة المطبوعة هي شيء تستقر معه. تشعر معه بالحرية، بأنك طليق من الاحتضان البارد الدبق للخوارزمية. تتسكع وتقيم على الحروف والمراثي (كل واحدة سيرة ذاتية بحجم لسعة)؛ تتخطى نشاز السياسة لتقرأ عن الحياة الواقعية، من العائلات إلى الطعام. إنها أفضل لصحتك العقلية، ومعرفتك العامة، وعضويتك في الجنس البشري.
أتمنى أن تقول الصحف، التي تعرف كيفية إيصال الرسائل، كل هذا. أتمنى أن تعزف على نغمات بوقها الأكثر رقيًا. أتمنى أن تُظهر أن معظم ما تفعله، من التقارير عن الحرب إلى صفحات الكتب، هو خدمة عامة. إذا تمكنتم من إقناع القارئ بهذا، كما فعلت صحيفة “الغارديان” باستخدامها الماهر لطلب الاشتراك، سيمكنكم تسوية ميزانيتكم العمومية. يقول مكابي: “أفضل طريقة لكسب المال من الأخبار، وبأميال، هي أن تنظر في أعين القارئ وتقول: ’إذا كنتَ تقدِّر هذا، ادفع ثمنه”.
سوف يفوز الموقع الإلكتروني دائمًا في بعض الجبهات –الفورية، والتفاعلية، والوصول الدولي. لكن الصحيفة المطبوعة تفوز بالقدرة الهادئة واللطيفة على امتلاكها، والإمساك بها. إنها قابلة لأن ترعاها، وتعتني بها، وهي أسهل بكثير للعين. إن لها سحرًا. وكما قالت نجمة البوب، كاتي بيري، في تغريدة غير متوقعة: “أحد أفضل الأصوات لديَّ على الإطلاق هو صوت أوراق صحيفة جديدة نضِرة تُقرأ على الإفطار ساعة أو نحو ذلك… انبثاق الأشياء منها، الخربشة على الكلمات المتقاطعة… آمل ألا تصبح في أي يوم شيئًا عفا عليه الزمن في عالمنا الرقمي. إنها شيء رومانسي للغاية”.
بعد تسعة أيام من عودتي إلى المنزل من أبردين، ثمة قصة إخبارية على موقع “بي بي سي”. “ثلاثمائة وظيفة ستُفقد لدى شركة الناشر “دي سي تومسون”، كما تقول. “قيل لرئيس تحرير ’بي آند جيه‘، فرانك أودونيل، أن وظيفته ’في خطر‘”. كنت قد رأيت عددًا من رؤساء الأعمال الجيدين يُطرَدون، لكن هذا سخيف.
بعد ثلاثة أسابيع لاحقًا، يغادر أودونيل. يقول على تويتر: “سأحتفظ إلى الأبد بذكريات رائعة عن الفريق وما حققناه. لقد وصلت إلى هنا وأنا أطمح إلى صنع بصمة لصحافة رقمية مستدامة في المملكة المتحدة. وأغادر مع أكثر من 28.000 مشترك رقمي مدفوع عبر موقعي الصحيفتين الرئيسيين، ومع ’بي آند جيه‘ كصحيفة العام الاسكتلندية”.
يبدو أنه غير قادر على التعليق أبعد من ذلك لأسباب واضحة. ويعود ذهني إلى السؤال الأخير الذي طرحته عليه عندما التقينا: هل سيصل عمر ’بي آند جيه‘ المطبوعة إلى 300 عام؟ توقف أودونيل عن الكلام برهة، وابتسم، وأدار رأسه من جانب إلى جانب.
وقال في النهاية: “أود أن أعتقد ذلك. لكنها بالتأكيد ستشهدني وأنا أغادر، على أي حال”.
*تيموثي جون مارش فيليبس دي ليسل Timothy John March Phillipps de Lisle: كاتب ومحرر بريطاني وكاتب قصص إخبارية لصحيفة ”الغارديان” ومنشورات أخرى، مع تركيز على رياضة الكريكيت وموسيقى الروك. وهو محرر مجلة “الحياة الذكية”، وناقد موسيقى الروك في صحيفة “ذا ميل أون صنداي”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Is this the end of newspapers?
المصدر: (نيو ستيتسمان) / الغد الأردنية