الأهم في الانتخابات التركية هو ما تتركه من انقسام البلد إلى نصفين شبه متساويين، ما يعني في العادة مسؤولية مضاعفة على الجانب الفائز بالحكم، إذ يقع على عاتق السياسات عبء تقليص الانقسامات وواجب توحيد المجتمع، ونادراً ما تنجح هذه المهمة حتى في أكثر الديموقراطيات كفاءة. فإذا كان الحزب الحاكم الآن هو الفائز، بنسبة ضئيلة، فإنه سيحاول استقطاب فئات كانت مناوئة له، لكن سيصعب عليه القيام بتنازلات مهمة قد تؤدي إلى انقسامات في تحالفه الانتخابي. أما إذا كان الحزب المعارض هو الفائز فإنه بطبيعة الحال يريد الاستحواذ على مواقع يؤسس فيها إقامة طويلة له في الحكم، ففي نظره هذا هو التغيير الذي وعد به ناخبيه.
قبل الجولة الأولى للانتخابات كان الفكرة السائدة في الإعلام الدولي، وحتى المحلي، أن هناك مناخ تغيير وشيكاً في تركيا، وأن الدلائل إليه عديدة. فالحزب الحاكم (العدالة والتنمية) سجّل تراجعات تمثّلت تحديداً في إدارة الاقتصاد، وهذا يكفي وحده لإسقاطه، فكيف إذا أضيفت إليه استجابة ضعيفة للزلزال وتبعاته. ثم إن النظام رئاسي جعل كل الإخفاقات تنتقص من رصيد الرئيس رجب طيب أردوغان، مع ما تراكم ضدّه من منحى فردي استبدادي وقمعٍ للمعارضين وتقويضٍ للحقوق والحريات وإضعافٍ للديموقراطية.
وعلى رغم أن النتائج أظهرت شيئاً من المحاسبة للحزب (نقص عدد أعضائه في البرلمان لكن تحالفه مع الحركة القومية ضمن له الغالبية)، وخصوصاً للرئيس (الذي لم يُنتخب من الجولة الأولى)، إلا أن التصويت العقابي ظلّ بعيداً من هدف “التغيير”.
لكن التغيير سيبقى مطلوباً، سواء لتصويب التعامل مع الأزمة الاقتصادية، وهو مفتاح الاستقرار وأهمّ وسيلة لتخفيف وطأة الانقسام الداخلي، أم لتصحيح صورة الحكم في الداخل كما في الخارج. ومع أن المشهد العام الذي عكسته الحملات الانتخابية لم يغص عميقاً في جذور الانقسامات، إلا أن الخلاف على الهوية لم يعد خافياً، ففي ذكرى مئوية الجمهورية الأتاتوركية وعلمانيتها التي كانت حاسمة في بناء الدولة الحديثة، توحي الأردوغانية بخلفيتها الإسلام – سياسية بأنها أسست جمهوريتها وتطمح إلى ترسيخها، لكنها قد تجازف بمدنية الدولة والوئام الاجتماعي. وكلّ تغيير يستدعي خشية عامة من التقلبات ويتطلّب مستوىً كبيراً من الثقة في الخيارات، أو بالأحرى في الخيارين المتاحين، لذلك كان هذا الانقسام العمودي في اصطفاف الناخبين. وإذ عنى التصويت لرئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو توقاً للخلاص من أردوغان ونهجه، فإنه مع ذلك لم يحمل اقتناعاً عاماً بأن الرجل وحزبه وتحالفه السداسي ممثلون للأتاتوركية ومتوافقون عليها، أما النصف الآخر من الناخبين الذي تمسّك بأردوغان فقد عبّر بحدّ أدنى عن مراهنته على تغيير لكن من داخل الأردوغانية نفسها، ومن شأن أردوغان وحزبه أن يفهما ويقررا ما إذا كان التصويت لهما يطلب مزيداً من “الأسلمة” أم مزيداً من “المدنية” لنظام الحكم.
في التحليلات الغربية، وكلّها غير صديقة لأردوغان، اعترافٌ بأنه “قويٌّ” ولم يبلغ نهاية الطريق بعد، أو على الأقل ليس هذه المرّة، واعترافٌ أيضاً بأن الانتخابات سليمة لكن من دون الذهاب إلى حدّ سحب المآخذ الغربية التي أضافت إلى انتقاد مسلكه غير الديموقراطي داخلياً استياءً كبيراً من تقاربه مع روسيا ورئيسها، فضلاً عن حياده في الصراع الروسي – الأوكراني. وفي التحليلات العربية اعترافٌ بأن أردوغان أجرى في العام الأخير من ولايته المنتهية مراجعة شبه كاملة لنهجه السياسي والدبلوماسي، ويوشك أن يستكمل تطبيع العلاقات بين تركيا ومصر، بعدما تحسّنت علاقاتها مع السعودية والإمارات اللتين لم تترددا في دعمها مالياً عشية الانتخابات. ولا ترى العواصم العربية الأساسية تناقضاً بين مواقفها من روسيا والصين، ومن حرب أوكرانيا، ومواقف تركيا التي كانت رأس حربة في الحرب الباردة السابقة ولا تريد، أسوة بالعرب، لعب الدور نفسه في أي حرب باردة مقبلة.
ومع أن التطبيع السعودي – الإيراني لم يثر حفيظة أنقرة، إلا أن التطبيع العربي – التركي لا يبدو مريحاً لطهران، بدليل أنها لا تشجع النظام السوري على استجابة الاستدارة الأردوغانية للتطبيع معه حتى لو كانت روسيا تتوسّط فيه. وليس سراً أن نظام دمشق راهن على تغيير في تركيا تأتي به الانتخابات، لاعتقاده أن التعامل مع خصوم أردوغان سيكون أكثر سهولة. غير أن الهدف الأول لهؤلاء هو إعادة اللاجئين السوريين “وفقاً للقانون الدولي”، لكنهم يعرفون أنه لم يسبق أن أبدى النظام أي خطة أو مبادرة أو حتى مجرد نية لاستعادتهم، وليس واضحاً ما إذا كانوا يدعمون الفكرة التي استنبطتها إدارة أردوغان وباشرت تنفيذها ببناء مساكن في مناطق سورية تحت السيطرة التركية مع خدمات ومحفزات لتشجيع اللاجئين على العودة الطوعية إليها.
التحدّي الآخر لأنقرة في سعيها إلى تطبيع العلاقة مع دمشق هو الانسحاب التركي من شمال سوريا الذي يشترطه نظام الأسد، فهذا قرار يتعلّق بتقديرات الجيش التركي لمتطلبات الأمن ببعديه القومي أولاً والكردي تالياً. يصعب الاعتقاد أن خيارات إدارة أردوغان في هذه النقطة المعقّدة تختلف عن خيارات أي حكم تركي بديل. فما يمكن أن يُحدِث اختراقاً في هذا الملف هو طبيعة الالتزامات والضمانات التي يتلقاها الجانب التركي من النظام السوري بالنسبة إلى ضبط مناطق الكرد ومنع مقاتليها من التعرّض لتركيا. وتتوقف تلك الالتزامات حالياً على إرادة الجانبين الروسي والإيراني لكنهما لا يعملان على موجة واحدة مع نظام دمشق، فليس بين الأطراف الثلاثة من يريد التخلّي عن استخدام الورقة الكردية.
تلك الورقة قد تكون التحدي الأكبر للحكم في تركيا، أياً تكن عقيدته السياسية. إذ إن الفشل في حلّ المسألة الكردية لن يديم قلق تركيا الوجودي والأمني فحسب، بل يبقي ديموقراطيتها موضع شك واختبار. كان وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قد شكّل في 2002 بارقة أمل وفرصة لحلّ تاريخي لتلك المسألة، لكنه ما لبث أن أجهض ثم اندثر. وفيما يعتبر الكرد أن حزب أردوغان فقد صدقيته لطرح أي مبادرة جديدة، فإنهم لا يأملون شيئاً من تصاعد الحركة القومية، ولا من إبقاء طموحاتهم المشروعة محاطة بستار من الغموض “الانفصالي”، ولا من إدامة التوجّس من خطرهم على وحدة الأراضي التركية. وإذا لم تتح الديموقراطية حلاً داخلياً لهذه المسألة، ولا الحملات العسكرية حسماً دموياً لها، فإنها ستبقى ورقة في الصراعات الإقليمية.
المصدر: النهار العربي