الموت المعمم في سوريا سهل وبسيط، ولا يتوقف منذ ما يقارب خمس سنوات، يطال العشرات، بل المئات، يوميا فيتحولوا مجرد أرقام وذكريات، وبعضهم لا يجد من يدفنه، أو لا يعرف له قبر محدد بشاهدتين، يدل على صاحبه ليعتني به أهله وأصدقاءه ومحبوه.
إلا أن الموت عند الروائي السوري خالد خليفة في عمله الجديد غير ذلك، إنه “عمل شاق” لذويه ويكاد أن يكون محفوفا بشتى المخاطر، إذا ما ترك المتوفى وصية تثقل كاهل الموصى لهم، وتدفعهم لتحدي الواقع لتنفيذها، لأسباب عديدة.
على مدى 150 صفحة من القطع المتوسط يغوص خالد خليفة في أغوار نفوس شخوصه ليعري الموروث البالي والتقاليد والعادات (إحراق ليلى لنفسها ليلة زفافها من شاب لا تحبه ولم تستشر فيه، وخروج عبد اللطيف السالم من قريته لرفضه المشاركة في الثأر والقتل) ويكشف زيف التاريخ في أبسط أشيائه (كل ما قيل عن حب عبد اللطيف السالم – المتوفي صاحب الوصية – “مجرد أكذوبة لم يجرؤ أحد على تكذيبها”) وتهتك العلاقات الإنسانية بين الإخوة (بلبل أو نبيل وحسين وفاطمة وتباعدهم وانشغال كل واحد منهم بشؤونه واستغراقه في همومه الخاصة وحياته المليئة بالخيبات والنكبات) كل ذلك مصحوبا بفساد أخلاقي ( يحول حسين قوادا كما وصفه والده، ويفشل زواج فاطمة الأول من ممدوح الذي لا يعدو أن يكون سمسارا صغيرا يؤدي لكبار التجار أعمالهم الأعمال القذرة) في كنف “وطن وقائد ” تلازمت الكلمتان فيه معا سنوات طوالا، واختزل الاول في الثاني.
تجري أحداث الرواية في سنوات الثورة السورية وعبر يومياتها، انطلاقا من مدينة (س) في ريف دمشق التي يخصها بمعان نبيلة لوفاء أهلها وما قدموه للثورة السورية، وبتفاؤل وحماس كبيرين، تدفع عبداللطيف السالم وصاحب الوصية، قبل مرضه وموته، للاعتناء بمقبرة الشهداء وتوثيق أسمائهم وحالاتهم وأعمارهم وزرع الورود والأشجار على أضرحتهم، والقول “أبناء الثورة في كل مكان لذلك سننتصر”.
إنها رواية معاصرة تسرد الوقائع وتنقل الأحداث وتصور ما جرى بانحياز واضح للثورة، ولعلها من أهم “الشهادات” الأدبية التي صدرت حتى الآن، خصوصا أنها تأتي بعد ” لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة ” التي صدرت عام 2013 ووصلت الى القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية، وحازت جائزة نجيب محفوظ لعام 2013، وهي عبارة عن ” تأريخ نصف قرن من حياة السوريين ” كما وصفتُها في حينها في مقالي في مجلة الشراع.
تبدأ الرواية بوصية الأب لابنه بأن يدفنه في مسقط رأسه، في قرية “العنابية” قرب شقيقته التي انتحرت قبل أربعين عاما، وتنتهي بالفشل في ذلك بعد رحلة معاناة طويلة وجهود مضنية ليدفن في مقبرة القرية ولكن “في زاوية بعيدة”، “كما عاش بعيدا”، انه يدنو من حلمه ويقترب منه ولكنه لا يتحقق كاملا.
الموت يخيم على كل شيء في الرواية وعلى كافة تفاصيلها، وجزئيات أحداثها، هو هاجس الجميع، وحاضر بقوة، يحاصر الجميع، حتى يخيل للقارئ أن بطلها الحقيقي هو الموت، ولكنها بالرغم من ذلك ” رواية عن قوة الحياة، لكن الموت هنا ذريعة ليس أكثر” كما جاء على الغلاف الأخير للرواية، الصادرة حديثا عن دار نوفل اللبنانية.
قوة الحياة هي الحافز الذي شجع المدرس المتقاعد عبد اللطيف السالم للزواج من نيفين، حبه القديم، بعد وفاة زوجها واستشهاد ابنيها، لما أعطته إياه الثورة من قوة دفع معنوية، وتفاؤل، وشعور “بانتماء قوي إلى كل شيء من جديد”، وفي أعماقه إحساس بأنه “محظوظ سيشهد نهاية نظام لم يقدم له سوى الذل طوال خمسين سنة “.
في تفاصيل العمل خريطة لواقع يشبه الجثة التي تعفنت وبدأ يخرج منها الدود والقيح، بلاد مقسمة بين نظام – عصابة ( مرتشون وأغبياء يعتقلون جثة) وأحرار (طيبون وبسطاء) وغرباء (ملثمون ومتطرفون يعلمون الناس أصول دينهم في دورات شرعية.!).
عبر رحلة طويلة من دمشق إلى قرية العنابية في ريف حلب الشمالي، استغرقت أياما بدل ساعات يسرد الراوي – على لسان شخوصه ( بلبل وحسين وفاطمة )أحلام وخيبات كل واحد منهم، يستذكر تفاصيل حيواتهم بوجع وألم إنسانيين كبيرين، يعود الى الماضي ويقص رغبات المستقبل، لتنتهي الحكاية ببلبل “جرذا كبيرا ” “وحيدا أكثر من أي يوم مضى” وفاطمة فقدت صوتها لتدخل صمتا أبديا، يفترقون بعد أن أكملوا تنفيذ الوصية، كل منهم في طريق مختلف دون الاتفاق على مواعيد للقاء أو معرفة أي منهم لمصير الآخر.
في هذا العمل يستكمل الروائي المتميز ما بدأه في “مديح الكراهية” و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” وكأنه عمل توثيقي لحقب تاريخية طويلة، ورصد لأجيال مضت وأخرى تتطلع الى الحياة، بأسلوب سردي جميل ينقلك من زمن لآخر بسلاسة شديدة، ومن مكان الى ثان بلغة شيقة تستعجلك استطلاع النهاية.
“الموت عمل شاق” رواية لا تستحق القراءة وحسب، بل تستحق ما هو أكثر من الحفاوة، أعني العناية بها كعمل فني زاخر بأسئلة الحياة والموت، الوجود والعدم، الشيء الكثير، مليئة بالتفاصيل الانسانية الموجعة والمؤلمة، حتى لو انتهيت منها تظل مشغولا ومسكونا بها، محاولا الاجابة على أبسط الأسئلة وأعقدها وأكثرها صعوبة. خالد خليفة واحد من روائي سورية الكبار وممن يحق لأهل الثورة السورية وأبنائها الفخر به كراصد لها ومنشغل بهمومها وتطلعات أجيالها.
428 3 دقائق