تتطلّع بيروت بقلق إلى ما ينتظرها مع دخول قانون “قيصر” حيّز التنفيذ في غضون أيام. هذا القانون الذي أقره الكونغرس الأميركي ووقعه الرئيس في كانون الأول/ديسمبر 2019 سيقضّ مضاجع كثيرين في لبنان، بدءاً من أركان السلطة مروراً بـ”حزب الله” وحلفائه وصولاً إلى اللبنانيين عموماً إذا ما تعاملوا مع النظام السوري بشكل مباشر أو غير مباشر.
قبل أسابيع، قدَّم الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله، مطالعة اقتصادية لحاجة لبنان إلى إعادة ترتيب العلاقات الرسمية مع النظام السوري. وبَّخ الحكومة، التي يديرها من الخلف، كيف أنها تطرق أبواب العالم للحصول على المساعدات وتذهب إلى صندوق النقد الدولي، بينما هناك طريق واضح وعقلاني: طريق بيروت – دمشق – بغداد الذي يتطلب عودة المياه السياسية إلى مجاريها مع نظام الأسد. اتّكأ على خطر الانهيار الاقتصادي وخطر المجاعة لمطالبة لبنان بالتوجه نحو الشرق بدل الغرب، والانخراط في محور إيران وامتداداته إلى روسيا والصين. نظّر بأن سوريا حاجة لبنانية، ورفع الصوت في وجه الدعوات لنشر قوات دولية على الحدود بين البلدين، بوصفها أحد أهداف حرب تموز/يوليو 2006، محذراً من “أن ذلك لا علاقة له بالاقتصاد أو منع التهريب، بل له علاقة بقوة الردع التي تحمي لبنان في مواجهة الأطماع الإسرائيلية”.
في خلفية المشهد، تحضر مفاعيل قانون “قيصر”. فـ”حزب الله” سيواجه مزيداً من الضغوط على الساحة اللبنانية، ومعه سيعيش حلفاؤه قلقاً مريعاً من أن تطالهم “العصا” الأمريكية. يقول الأستاذ في القانون الدولي د. أنطوان صفير إن قانون “قيصر” المخصص للمسألة السورية، ينص على “معاقبة كل من يقدّم أي مساعدة أو أي دعم أو أي تواصل مع النظام في سوريا. وهو يأتي في صيغة شاملة، بحيث لا يفرّق بين الشركات والأشخاص والدول والمؤسسات أو المنظمات غير الحكومية، وما سواها. وعليه، ستقع تحت طائلته دول ومنظمات ومؤسسات وتجّار وشركات وبنوك تتعامل مع النظام السوري بشكل مباشر أو غير مباشر. وعندما نتكلم عن معونة أو عن دعم، فذلك يشمل ما هو مالي ومصرفي وتجاري وعسكري”.
هذه القنوات المالية والمصرفية والتجارية والعسكرية مفتوحة بين البلدين بطرق مباشرة والتفافية. من هنا يُبدي كثير من الخبراء اقتناعاً بأنه ستكون للقانون تداعيات على لبنان. في رأي صفير أن “التداعيات على لبنان تأتي من بأب أن هناك أفرقاءً وشخصيات وتيارات وأحزاباً وتجّاراً ومصارف يتعاونون مع النظام السوري ويقدّمون له الدعم، ويتواصلون معه، أو يشكلون امتداداً لسياسته في لبنان”، لكنها أيضاً ستأتي “من باب أي تعاون مستقبلي ممكن أن يقوم بين الدولة اللبنانية والدولة السورية أو شركات، أو بين أحزاب لبنانية والدولة السورية، أو بين شخصيات لبنانية والدولة السورية”.
“قيصر” لبناني قيد الإعداد
وما سيضاعف من تعقيد الأمور على لبنان، ويُفاقم من المحاذير، وفق أستاذ القانون الدولي، وجود مشروع قانون آخر في الكونغرس الأمريكي يشبه قانون “قيصر” ولكن يتعلق بلبنان، أي أنه يقطع كل مساعدة، ويمنع الدعم الدولي، أي دعم المؤسسات الدولية والمنظمات الدولية والدول طبعاً، وهذا ما يُشكّل طبعاً حالة اختناق للبنان في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة.
في توصيف الخارجية الأمريكية، فإن القانون يرسل إشارة واضحة مفادها أنه لا ينبغي لأي طرف خارجي الدخول في أعمال مع هذا النظام أو أعمال تؤدّي إلى إثرائه. هذا يتناول بالطبع روسيا وإيران، لكنها أيضاً تدق جرس الإنذار للعراق ولبنان الواقعين تحت تأثير نفوذ طهران، وكذلك تُرسل رسائل ملطّفة إلى حلفائها الذين يحاول بعضهم مدّ يد العون إلى نظام الأسد لحسابات سياسية أخرى.
دور رئيسي لزكّا
أهمية القانون، كما يقول متابعون، تكمن في أنه جزء من المنظومة القانونية الأمريكية. وهناك آليات وفريق عمل متخصص، يُعرف بـفريق “قيصر”، بينه المعتقل السابق في إيران اللبناني -الأمريكي نزار زكا الذي كشف عن “وجود دفعات أربع من العقوبات ستطلق اعتباراً من منتصف تموز/يوليو وحتى نهاية آب/أغسطس تتضمّن أسماء مسؤولين وشركات خاصة في سوريا ولبنان والعراق وإيران وروسيا. وأن العقوبات ستشمل كيانات حزبية وشركات وأفراداً قدّموا الدعم الاقتصادي والسياسي للنظام السوري منذ تاريخ توقيعه في 19 كانون الأول/ ديسمبر الماضي إلى اليوم”. ويلفت زكا إلى أن “قانون قيصر” يختلف عن العقوبات السابقة، لأنه يشمل كل من يتعامل مع النظام من داخل سوريا وخارجها، وسيطال مواقع داخل الدولة على عكس العقوبات السابقة التي كانت تطال أفراداً محددين.
لم يظن المصور السوري المنشق (يُعتقد أنه ينتمي لمنطقة حوران) الذي حمل صوره ال ـ55 ألفاً العائدة لـ11 ألف معتقل إلى العالم دليلاً دامغاً على جرائم حرب ارتكبتها منظومة الأسد التي سيطالها الحساب طال الزمن أو قصر، أن جهده السري سيكون بمثابة المقصلة التي لن تطال النظام السوري فحسب، بل دول المحور الداعم له والجماعات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي وفّرت له فرص “صموده” على مدى الأعوام الأخيرة.
وبهذا المعنى فإن قانون “قيصر” الأمريكي ستكون له مفاعيل إقليمية ضاغطة تلقي بأثقالها على لبنان، الذي غالباً ما اعتبر “الحديقة الخلفية” لسوريا التي عاندت طويلاً الاعتراف بـ”بلاد الأرز” كدولة وكيان وتفادت ترسيم الحدود “المفتوحة” بين البلدين.
وفي رأي دوائر مراقبة في بيروت أن قانون “قيصر” بقدر ما هو لمحاصرة النظام في سوريا ومنع الأوكسجين عنه وعزله، سيكون رسالة صارمة للبنان الذي أدى اختلال التوازن السياسي الداخلي فيه إلى قيام حكم (رئاسة وحكومة وبرلمان) يشكل امتداداً لـ”محور الممانعة”.
ولم يكن عابراً جنوح الحكم في لبنان في اتجاه التلويح الدائم بالحاجة إلى تطبيع العلاقة مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد، تارة من بوابة النازحين وتارة أخرى عبر النافذة الاقتصادية في لحظة الانهيار المالي – المعيشي الذي تعانيه بيروت.
وغالباً ما شكّلت الدعوة للانفتاح على النظام السوري عنصر التماهي الرئيسي بين “حزب الله” وحليفه المسيحي، أي فريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وهو ما يأخذ بعداً “أيديولوجياً” من خلال المجاهرة بـ”المشرقية” كخيار لانتزاع لبنان من عروبته، وإلحاقه بمحور “تحالف الأقليات” الذي تتقاطع فيه أدوار إيران وروسيا.
ولم تكن هذه التوجهات الطاغية لدى حلفاء النظامين السوري والإيراني في بيروت مجرّد “نيات سياسية”، بل برزت ترجماتها الفعلية على شكل وقائع صادمة حين كشف النقاب أخيراً عن ان لبنان كان يُنفق منذ العام 2013 نحو 4 مليارات دولار على سلعة مدعومة (كالمحروقات) يتم تهريبها إلى سوريا مما حمّل الخزينة اللبنانية التي أصيبت بالخواء نحو 24 مليار دولار.
تداعيات “قيصر” لبنانياً
ويعتقد خبراء في السياسة والاقتصاد والقانون في بيروت أن المفاعيل اللبنانية لقانون “قيصر” ستأخذ أبعاداً بالغة التأثير، وفي مقدمها:
الانتقال من محاصرة “حزب الله” بالعقوبات ومحاولة خنقه وإضعاف اقتصاده الموازي في لبنان، إلى ميدان آخر قضائي من خلال الدعاوى التي قد ترفع ضده في المحافل الدولية والأمريكية لمشاركته في قمع ثورة الشعب اللبناني.
ولأن قانون “قيصر” سيتعاطى مع “حزب الله” كأحد الأطراف التي آزرت الجيش السوري في حربه ضد شعبه، فإنه من المرجح أن تتسع مروحة العقوبات الأمريكية لتطال حلفاء لـ”الحزب” من خارج البيئة الشيعية، وهو ما ألمح إليه أخيراً مساعد وزير الخارجية الأمريكية ديفيد شنكر.
وضع الحدود اللبنانية – السورية على الطاولة من زاوية الحاجة إلى وقف عمليات التهريب “الممنهجة” لتزويد نظام الأسد بمقومات الصمود، وسط “عين حمراء” دولية وأمريكية مردها إلى ما أصاب لبنان من انهيارات شكّل التهريب إلى سوريا أحد أسبابها، وما يصيب سوريا من خلال تطويل عمر نظام الأسد.
إخضاع لبنان لمعاينة دقيقة نتيجة أدوار بعض رجالاته وشركاته ومؤسساته في دعم النظام السوري بأشكال مموّهة، وإسقاط الأوهام في إمكان الرهان على المشاركة في عملية إعادة إعمار سوريا ودفع “فواتير سياسية” في معرض تقديم “أوراق اعتماد” لحلفاء الأسد في لبنان لهذه الغاية.
فمع دخول قانون “قيصر” حيّز التنفيذ أشياء كثيرة ستتغير في لبنان المسكون بصراع متعدد الأوجه منذ اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري في شباط/فبراير العام 2005، وهو الصراع الذي لن يهدأ رغم صعوده حيناً وخفوته أحياناً، غير أن السؤال الذي يزداد وطأة في بيروت هو: كيف سيواجه “حزب الله” مفاعيل القانون الأمريكي الجديد وتداعياته؟
لن يرفع “حزب الله” الرايات البيض رغم براغماتيته التي تجعله يشعر بأن الأرض السياسية تهتز تحت قدميه، ومن المرجح أن يمارس سياسة المزيد من الهروب إلى الأمام عبر السعي إلى تطويع الوقائع التي يصعب ترويضها، وتالياً فإن من المتوقع أن يأخذ لبنان إلى مزيد من العزلة عن المجتمعين العربي والدولي عبر جعله “غزة ثانية” ملحقة بالتعبير الذي دخل القاموس السياسي اللبناني حديثاً، أي “السوق المشرقية”.
بعد تسعة أعوام على الثورة “المذبوحة” في سوريا، جاء قانون “قيصر” كأحد أبرز المنعطفات في مسار الأزمة التي تحوّلت إقليمية – دولية بامتياز، وربما يضاهي تحوّلات كثيرة حصلت كاستخدام الكيماوي من قبل النظام والانفلاش المريب لـ”داعش” ودخول إيران وميليشياتها ومجيء الروس.
ها هي أمريكا ترمي بقانون “قيصر” في تحوّل لا بدّ من انتظار صداه لدى “قيصر” موسكو، فلاديمير بوتين الذي جعل من نفسه “مايسترو” الملف السوري!
المصدر: “القدس العربي”