الجزء الثاني
ومن الإشكاليات المرتبطة بالتسويق السياسي عدم إمكانية فصل المكونات التسويقية عن بعضها البعض. ولذلك يجب على مخططي الحملات السياسية التركيز على الربط بين المكونات مجتمعة في ضوء التكلفة والعائد السياسي لها، وكذلك التركيز على بناء صورة المؤسسة السياسية لدى المواطنين، فإذا كان هناك تناقض في بعض مكونات المنتج السياسي، فهذا يعود إلى تباين رغبات ومطالب مكونات السوق السياسي ذاته.
وأيضا من السمات المرتبطة بالمنتج السياسي أن المستهلك يمكنه أن يحول قراره بعد عملية الشراء؛ بمعنى أن يتراجع في اقتناعه بالمنتج السياسي المقدم. فمصداقية المؤسسات التي تدخل في ائتلافات تكون موضع شك، وهذا قد ينسحب على العملية السياسية كلها فتتعرض المؤسسة لاتهامات وانتقادات لعدم التزام المؤيدين و المواطنين بمبادئها وما تطرحه من سياسات تمثل منتجها السياسي، وتكون المشكلة أكثر تعقيداً بالنسبة للمؤسسات التي تحصل على دعم المواطنين بناء على برنامج معين، ثم تقوم بالانضمام أو بتشكيل إئتلاف مع مؤسسات أخرى أو تأييدها رغم تباين سياسة ومنتج كل منهم. هنا قد تفقد المؤسسة مصداقيتها وسمعتها بين المواطنين.
وفي هذا السياق، يجب على مخططي حملات التسويق السياسي أن يركزوا على تميز المنتج السياسي للمؤسسة، وعدم طرح قضية واحدة، وإنما عدد من القضايا التي تحقق درجة من الانسجام بين المؤسسة السياسية، ومضمون الخطاب السياسي ، والمنتج ، الذي يقدمه .. وإذا اضطرت المؤسسة للدخول في ائتلافات، يتم التركيز على أن ذلك للمصلحة السياسية ولهدف إستراتيجي، وأنه تم على قاعدة الاتفاق على مجموعة من القضايا المرحلية ، مع الاستمرار في التركيز على التزام المؤسسة بمبادئها والحفاظ على سجلها, وأن ما حدث هو تغيير في مستوى أسلوب المؤسسة وتكتيكات ممارساته, وليس على مستوى مبادئه وإستراتيجيته . ويبقى أن النقطة الأساسية بالنسبة للمنتج السياسي هي قدرة مخططي الحملات السياسية على تصميم هذا المنتج، في ضوء العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في بلد معين وفي زمن محدد. فهذا المنتج يجب أن يعبر عن اهتمامات واحتياجات المواطنين.
وتأتي أهمية المؤسسات السياسية المدنية والحزبية من كونها أحد ملامح التطور السياسي في أي مجتمع، ولذلك يعتبر تمايز البناءات السياسية وتخصصها الوظيفي أحد الفروق الأساسية بين النظم الأكثر تطوراً؛ والأقل تطوراً. وترتبط فعاليتها بطبيعة النظام السياسي، فالمؤسسات الحزبية في النظام السلطوي تتسم بالجمود، وتسعى للاستجابة للنظام السياسي القائم أكثر من سعيها للتعبير عن مطالب المواطنين ، إلا إذا اتخذت من معارضتها لهذا النظام منطلقا” لتحريك الجمهور والعمل على تشكيل رأي عام للتغيير .. أما النظام الديمقراطي فيسمح لهذه المؤسسات بمراقبة سياساته وسلوكياته، وتتسم المؤسسات فيه بالاستقلال على المستويين المركزي والمحلي.
وتتعدد خصائص المؤسسات السياسية، المرتبطة بالتسويق السياسي، وفقا لما يلي :
أولا : القدرة على التكيف مع التغيرات البيئية:
الحزب يجب أن يتصف بالمؤسسية وطابع الاستقلال للتحرر من سلطة النظام أو اية فئة أخرى ، وان يتميز أيضا بخاصية التماسك وعدم وجود صراعات وخلافات داخله وفي قياداته، وفقدان المؤسسة الحزبية لهذه الصفات أو أي منها يحد من قدرتها على القيام بوظائفها في التعبير عن مطالب الجماهير وتجميع مصالحهم.
و للتكيف مع المتغيرات ثلاث مستويات :
١- تفضيل المؤسسات الاحتفاظ بالطرق التقليدية:
عادة تميل المؤسسات الحزبية إلى التمسك بالطرق التقليدية وبالٱليات البيروقراطية ،وتعتبر تكتيكات السوق عاملا عرضيا بل وتمثل تهديدا للتقاليد السياسية ولذلك فإن الجدل والصراع داخلها يتفاعل ويتأرجح بين الالتزام بالوسائل التقليدية في تسويق سياساتها وبين استخدام التسويق السياسي الذي يقوم على الحرفية في الحراك السياسي.
٢- الإدراك السلبي للتسويق السياسي:
تتركز رؤية المؤسسات الحزبية السلبية للتسويق باعتباره يشكل تهديدا لتقاليدها وتاريخها وتنظر للتسويق السياسي على انه غير أخلاقي لأنه يجعلها تركز على قضايا تكتيكية أكثر شعبية لكنها فرعية قصيرة المدى ، وتتجاوز القضايا الاستراتيجية والمبدئية التي تحظى على اهتمام النخب السياسية .
٣- الاعتماد على جهود المتطوعين:
تعتمد المؤسسات السياسية الحزبية والمنظمات غير الربحية بدرجة كبيرة على جهود المتطوعين وولائهم ، وعادة ما يكون لدى المؤسسات فريق مخصص لتجنيد المتطوعين ، ثم بدأت المؤسسات تتجه أكثر للتركيز على الاستشارات في التسويق لنفسها. وأصبح المتطوعون يعملون ضمن فريق الحملات السياسية وخصوصاً في المستويات المحلية, وفي المؤتمرات وجلسات النقاش التي تعقدها المؤسسات .
ثانيا : مواقف واستراتيجيات المؤسسات السياسية:
نجاح استراتيجيات المؤسسات السياسية يكمن في تبني المفهوم الشامل للتسويق السياسي وتطبيق تكتيكاته في حملاتها السياسية للحصول على تأييد المواطنين لشد الجمهور أوالفوز بالانتخابات للوصول إلى الحكم ، على أن تدرك أهمية موقفها وتموضعها في السوق السياسي في ضوء البيئة السياسية التنافسية ووجود أكثر من لاعب في الميدان السياسي .
وتبرز عدة مواقف يمكن لأي مؤسسة حزبية أن تصنف نفسها في إحداها، وهذه المواقف:
١- موقف اللاعب السياسي الرئيسي في السوق:
التنافس دائم بين أي مؤسسة سياسية وبين اللاعب الرئيس في السوق السياسي الذي لديه الاغلبية ، وعادة ما يتعرض اللاعب الرئيسي لهجوم من أطراف متعددة ،مما يفرض عليه اتباع عدة أساليب للحفاظ على تفوقه تتمثل في توسيع السوق الكلي او زيادة حصته في هذا السوق أو الدفاع عن حصته الحالية . وللتغلب على صعوبة الحصول على مؤيدين جدد عليه العمل على جذب المواطنين المحتملين ، وهنا عليه المواءمة بين الثبات والتطور. فالثبات يساعده على الاحتفاظ بمؤيديه الأساسيين، والتطور يمكنه من اجتذاب مؤيدين جدد من فئة الشباب.
وبما ان المؤسسة السياسية تتعامل مع سوق عريض له مطالب متنوعة ومتناقضة في بعض الأوقات، ولذلك تكون هناك حاجة إلى مراجعة مستمرة ؛ حتى تستطيع أن تحتفظ بموضعها في السوق السياسي، كما تحتاج إلى تطوير استراتيجية دفاعية لتدعيم صورتها الذهنية السياسية لدى المواطنين، ولتأكيد أنها ليست مجرد لاعب بين مجموعة من المتنافسين، وإنما تمثل حركة وطنية تعبر عن كل الفئات في السوق السياسي، وليس فئة أو قطاع واحد منه.
٢-موقف المعارض:
الدور الأساس لموقف المؤسسة المعارضة هو إبعاد اللاعب الرئيسي من البيئة التنافسية ، والسمة الأساسية للمؤسسة المعارضة في أن عليها أن تمارس إستراتيجية نشطة لكي تصبح اللاعب الرئيسي في السوق السياسي، وعادة ما تتبنى مدخلاً هجومياً في تعاملها من المنافسين السياسيين تتمثل في استراتيجية الهجوم المباشر على المؤسسة الرئيسية ، وهي استراتيجية لها فوائد ومكاسب ولكنها تمثل درجة عالية من المخاطرة ، أو ان تهاجم مؤسسات معارضة أخرى من مستواها نفسه بهدف كسب حصتها أو جزء من حصتها في السوق السياسي أو أن تهاجم مؤسسات أقل منها بهدف اجتذاب مؤيديها .
وبكل الحالات على المؤسسة المعارضة أن تكون متميزة في منتجها السياسي واللجوء الى تقليل الاختلافات بين سياستها وسياسة هذه المؤسسة أو تلك ، ثم تقوم بالهجوم بالاستناد على أن المؤسسات المنافسة لها تفتقد القدرة على تنفيذ سياساتها ، وانها تمثل البديل الأنسب بالمقارنة مع غيرها .
٣- موقف التابع أو المقلد:
عندما تكون فرص التمييز بين السلع محدودة وحساسية الطلب مرتفعة التكاليف, تلجأ بعض المنظمات التجارية إلى أسلوب التقليد أو تتبع خطى شركات أخرى. وبالمثل تتجنب بعض المؤسسات السياسية تحمل تكاليف تصميم المنتج السياسي, وبحوث السوق وتفضل تقليد ونسخ المنتجات السياسية لمنافسين آخرين في السوق السياسي. وتركز هذه المؤسسات على التقليد والمحاكاة بدلاً من التركيز على المدخل الإبداعي، مما يبقيها تابعة للاعب الرئيسي .
وتلجأ هذا المؤسسة إلى عدة استراتيجيات, منها: استنساخ سياسات ومنتجات المؤسسة الرئيسية وتبني استراتيجيتها ، وتقوم بتسويقها لدى قطاعات مختلفة من المواطنين لتجنب المواجهة مع المؤسسة الرئيسية وفي المحصلة لا تستطيع توسيع حصتها في السوق أو البحث عن مؤيدين جدد .
٤- موقف الأقلية: حيث توجد مؤسسات سياسية محدودة تعبر عن أفكار ورؤى مجموعات محددة في السوق السياسي. وعادة لا تتبنى هذه المؤسسات قضايا مهمة ذات بعد وطني عام أو قومي. وهذا النمط من المؤسسات لا يسعى إلي الوصول للسلطة أو تشكيل الحكومة بمفردها, وإنما تسعى إلى المشاركة في هذه الحكومة أو تحقيق مصالح أعضائها من خلال تأييد ومساندة المؤسسة الرئيسية.
ومن المفيد في التسويق السياسي ربط السوق السياسي بسلوك المستهلك ودوافعه وبالتالي انعكاس مستوى المعرفة ودرجة الانخراط في العمل السياسي على شد المستهلك للمؤسسة الحزبية .. ويعود مستوى المعرفة إلى البناء المعرفي للفرد والطريقة التي يفكر بها، والاتجاهات التي يحملها تجاه القضايا والقيادات السياسية وقضايا السياسة العامة. ولا يتوقف مستوى المعرفة على المعلومات التي لدى الفرد فقط، وإنما يتعداها إلى الطريقة التي يتعامل بها الفرد أو المستهلك السياسي مع هذه المعلومات بدرجة أكبر من الدقة وبجهد أقل. ولذلك يرتبط مستوى معرفة المستهلك السياسي، بالمهارات الموجودة لديه في تحليل وتقييم المعلومات التي يتلقاها ومقارنتها بما لديه من مخزون فكري وخبرات سابقة. أما مستوى الانخراط في العمل السياسي.. فيرتبط بدوافع الفرد للاستجابة والمشاركة في العملية السياسية. ويعود ذلك إلى الدرجة التي يدرك فيها المستهلك السياسي أن انخراطه في العملية السياسية يحقق له اشباعات ومصالح، على المستوى الشخصي أو الاجتماعي أو الثقافي.
ولا شك أن الإعلام والإعلان السياسي يصنع الماركة السياسية من خلال استخدام تقنيات الاتصال الحديثة من أجل نجاح الاستراتيجية التسويقية التي يجب أن تعتمد على القراءة الجيدة للواقع ، وعلى دراسة النفسية السلوكية للجمهور أو الناخب في مجال الحملات الانتخابية . فالرئيس ” أوباما ” مثلا ، تبنت حملته ماركة سياسية تحت شعار ( نعم نحن نستطيع ) ومن خلال تقنيات الاتصال فقد صورت ” أوباما ” مرشحا قريبا” من الناس ، هذا النجاح الباهر للاستراتيجية الإعلانية التي اعتمدت على قراءة معمقة للسوق الانتخابية ، واختيار تموضع يعتمد على القرب من الناخب وخصوصا الشباب منهم استطاعت صنع هوية خاصة ” باوباما ” واصبح شعار ( نعم نستطيع ) لا يفارق الألسن وأضحى ملهما لعدد كبير من السياسيين والمحللين وخبراء الحملات الإعلانية في العالم .
ونعود للقول أن بقاء الأحزاب السياسية على الصيغة التقليدية لحركتها وحراكها في المجتمع ، وعدم التعاطي مع البرامج المتطورة في بناها الداخلية وإدخال التقنيات الحديثة في التواصل والاتصال في تفاعلها مع جمهورها والفئات المجتمعية الأخرى .. فإن ذلك سيزيد من عزلتها واستنزاف قدراتها وكوادرها . فالزمن يتطور ويتغير بسرعة مذهلة ، والأيام ولادة لقوى وأحزاب جديدة تتواكب مع المتغيرات الحاصلة وتنخرط في مجالات التقدم العلمي والتقني في استثمار ناجح ومعرفة حقيقية وواقعية للسوق السياسي واستثمار مخرجاته في تطوير معارفها وأدائها . ومن الطبيعي فعلا” ، أن من يقف بالظل ، بالتأكيد لن يكون له ظل …..
٢٧/٤/٢٠٢٣
المراجع :
١- مفهوم التسويق السياسي . حسين الأمين
٢- التسويق السياسي: المفهوم والمكونات
د. مجدي عبد الجواد
٣- التسويق السياسي النظرية والممارسة بين عالمين . مناف الحمد