ابتسام تريسي روائية سورية متميزة، قرأت اغلب إنتاجها الروائي، لها العديد من الروايات، بدأت بالنشر من أوائل العقد الأول للقرن العشرين، واكبت الواقع السوري ومتغيراته من موقع أدبي نقدي، تنتمي للثورة السورية، ما تزال مستمرة بالإنتاج الروائي، لها العديد من الروايات قيد الطبع.
جبل السماق (الخروج إلى التيه) هي الجزء الثاني المكمل لرواية جبل السماق (سوق الحدادين)، والروايتين ترصدان حياة إبراهيم الشخصية المحورية للرواية منذ أوائل القرن العشرين، ومن خلاله ترصد المتغيرات الصميمة العميقة التي أصابت المجتمع السوري منذ أيام العثمانيين مرورا بالمستعمر الفرنسي والاستقلال وبداية الحكم الوطني بعد جلاء الفرنسيين وصولا الى الوحدة المصرية السورية وبعدها الانفصال، ثم الانقلاب على الانفصال وهيمنة حزب البعث على السلطة في سورية وتنتهي الرواية مع هزيمة سورية ومصر والأردن أمام العدو الصهيوني في حزيران عام ١٩٦٧م. للروايتين مستويات في متابعة الحدث الروائي، فيه ترصد حياة ابراهيم؛ شخصيتها المحورية، ومن خلالها ترصد واقع مدينة اريحا وما حولها، وتمتد المتابعة لكل المجتمع السوري ومدنه.
كانت رواية جبل السماق (سوق الحدادين) قد رصدت حياة بطلها الطفل ابراهيم وبداية نضجه، عمل والده في مهنة الحدادة، إصرار إبراهيم على التعلم، نضاله في هذا السبيل، مساعدة خالته له في تلبية طموحه، والده القاسي، تمرد إبراهيم ونزعته للحرية وتحقيق ذاته واعتباره، وصوله في دراسته الى الصف الخامس الابتدائي، متابعته الدراسة رغم كل الصعوبات، وانتقاله الى حلب لمتابعتها. دخلت الرواية في تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية لمدينة أريحا وسورية عموما، مما جعل الرواية سجلّا اجتماعيا، سياسيا، لمرحلة انتهت أحداث الجزء الأول من الرواية في بداية عهد الاستقلال عن الفرنسيين في سورية.
أما رواية جبل السماق (الخروج الى التيه) – الجزء الثاني- فهي تتابع حياة إبراهيم في مرحلة الشباب والنضج، مستخدمة في سردها لغة المتكلم على لسان إبراهيم الشخصية المحورية فيها. راصدة من خلال تتبع حياته واقع المجتمع السوري بكل تفاصيله، متابعة المتغيرات السياسية والمفاصل الهامة التي مرّت على سورية بعد الاستقلال، الحكم النيابي لسورية ثم الانقلابات العسكرية الثلاث، وبعدها الحكم النيابي مجددا. ومن ثم الوحدة مع مصر ١٩٥٨، والانفصال بعد ثلاث سنوات، الذي استمر لسنتين، ثم قيام حركة آذار ١٩٦٣م، حيث سيطر البعث على الحكم في سورية، وتنتهي الرواية مع هزيمة العرب في حزيران ١٩٦٧م أمام العدو الصهيوني.
تبدأ الرواية من حياة إبراهيم الشاب الذي أصر على اكمال تعلمه في حلب، خدع والده بأنه سيتعلم في مدرسة الخسروية، على ان يعود مدرسا دينيا وقد يكون إماما في مسجد، لكنه تابع دراسته في مدرسة التجهيز، التي يتخرج منها مدرسا فيما بعد.
واجه إبراهيم الحياة مسكونا بهاجس البحث دوما عن الاعتبار الذاتي، والاجابة عن الاسئلة الوجودية، ما زال ابراهيم ذلك الفتى الحر الذي لا يقبل الضيم وينتصر لما يراه حق، لا يهادن، يصادق بعمق وصدق. تحركت داخله دوافع البحث عن النصف الآخر في وجوده، اصبحت الانثى مكملا له في وجوده اينما حل، فهو يتقاطع دوما حيث يذهب ويسكن ويلتقي بالناس مع الفتيات اللواتي يلهبن مشاعره، ويعيشها جيّاشة، بعضها يصل إلى اتصال جسدي واغلبها تبقى تحوم في الهيام النفسي والبحث عن إرواء الوجود الإنساني العاطفي والنفسي والوجداني من خلال حبيب مرغوب دوما، موجود او يبحث عنه في كل مفصل من حياته.
استمر إبراهيم في متابعة الشأن العام وانخرط به عبر مصداقية عالية، كانت سورية تمر بمتغيرات عميقة بعد الاستقلال عن الفرنسيين. سورية التي خاضت ومصر والأردن باكرا مع العدو الصهيوني (إسرائيل) معركة في عام ١٩٤٨م التي تأسست فوق جزء من فلسطين، هزمت الجيوش العربية، وتوسعت (إسرائيل) أكثر، وعاد الجنود إلى بلدانهم مخذولين. بدأوا سلسلة انقلابات في سورية، بدأها حسني الزعيم بدعوى محاسبة الحكم عن الهزيمة، لكن الاستبداد بالحكم كان أول انجازاتها، وسرعان ما انقلب سامي الحناوي على حسني الزعيم، ثم انقلب أديب الشيشكلي على سامي الحناوي، وكلهم ضباط. اعاد الشيشكلي الحكم إلى المجلس النيابي وغادر السياسة وسورية أيضا. لم تكن سورية بعيدة عن الأجواء العربية العامة، تابعت العدوان الثلاثي على مصر على أثر تأميم عبد الناصر لقناة السويس ومن ثم الاندفاع الشعبي ومعه ضباط الجيش والسلطة الحاكمة للوحدة مع مصر، التي تحققت فعلا في عام ١٩٥٨م. كان إبراهيم منخرطا بشكل حيوي في كل ذلك. هو واحد من الجيل القلق الذي يبحث عن المعنى والجدوى في الحياة، كان يعايش تيارات فكرية وحزبية ثلاث: القوميين العرب ونموذجهم حزب البعث، والاسلاميين ونموذجهم الإخوان المسلمين، واليسار ونموذجهم الحزب الشيوعي السوري. كان إبراهيم أقرب الى الفكر القومي البعثي، تشبع بكتابات زكي الأرسوزي، وانتسب الى البعث ورأى فيه المنقذ والنموذج الذي سيغير البلاد ويدخل العرب في الوحدة والاشتراكية، كان السجال بين إبراهيم ورفاقه المحيطين به لا يتوقف حول الشأن العام وصحة المنهج الفكري، وكانت تصل السجلات للصراع احيانا ولكنها تنتهي كلها عند الرجوع لحالة التواد والصحبة وأن الخلاف لا يفسد للود قضية.
تابع إبراهيم تحصيله العلمي وحصل على شهادة الاعدادية التي أهلته أن يصبح معلما. كان الفقر وضيق الحال مانعا من متابعة التعلم، مما دفعه ليكون مدرسا للمرحلة الابتدائية في كثير من مدارس سورية الممتدة خارطتها من درعا جنوبا الى الشمال السوري المحاذي للحدود مع تركيا، الى الساحل السوري، إلى القرى في جبال اللاذقية. كانت تنقلاته أغلبها تأديبي، ترتبط بخلافاته مع الجهاز الإداري أو بعض المدرسين او بناء على طلبه عندما تكن ظروف تدريسه صعبة. عايش إبراهيم واقع السوريين في قراهم بتنوعها، الشعب الفقير البسيط الطيب المنغلق على ذاته وعلى عقائده، دون أي مراجعة. الناس البسطاء ضحايا التفاوت الاجتماعي، هناك دوما آغا او اقطاعي متنفذ ومستغل لمن حوله، وهناك علاقات مصالح بين هؤلاء الملّاك والمتنفذين مع رجال السلطة والشرطة والعسكر، في كل مكان وزمان، ولا يهم نوع السلطة المتنفذة، فهذه الفئة تتلون مع الحاكم أيّا كان وتتقاسم معه غنيمة استغلال الشعب الفقير في كل وقت. كان إبراهيم يعيش قلقا داخليا بين ما يعيش هو وأغلب السوريين من ظلم وفقر وتخلف، وما يطمح به من عدالة وحقوق ووعي ومساواة، لذلك كانت السياسة والاهتمام بها، هي التعبير الناضج عن عمق اندفاعه الفطري للتحرر والتمرد والمطالبة بالحياة الافضل. كان إبراهيم يواكب المتغيرات السياسية في سورية، لم يتقبل الانقلابات التي حصلت في سورية، وكان يطمح ان يسيطر البعث على السلطة في سورية ليطبّق أفكاره بالوحدة والاشتراكية وتحقيق العدالة وإنصاف الفقراء. كان لظهور عبد الناصر والضباط الأحرار في مصر وثورتهم على السلطة الملكية، وتحرير مصر من الإنكليز، وتأميمه قناة السويس، كل ذلك جعله رمزا في سورية ومصر وأغلب بلاد العرب، البطل القومي المطلوب لتحقيق مطالب العرب. وجعل ذلك المناخ العام السوري شعبيا وسياسيا أقرب للوحدة مع مصر عبد الناصر. كان البعث مع الوحدة، قادته ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني؛ الذي كان توحد حزبه العربي الاشتراكي مع حزب البعث وأصبح اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي. كانوا مع الوحدة مع مصر دون قيد أو شرط. بينما كان الاسلاميين من أنصار الإخوان المسلمين رافضين للوحدة، بسبب موقفهم المعادي من عبد الناصر، الذي اختلف مع الإخوان في مصر وزجّهم بالسجون وأعدم بعضهم. كذلك الشيوعيين السوريين الذين أخذوا موقف الإتحاد السوفييتي المعادي للوحدة من منظور شيوعي عقائدي. لكن الفئتين كانتا ضعيفتان امام الشارع السوري وطبقة الضباط والسلطة الحاكمة، المندفعين جميعا للوحدة مع مصر عبد الناصر.
حصلت الوحدة مع مصر في عام ١٩٥٨م. كان إبراهيم من موقعه الفطري وحديا بالفكر نقديا باتجاه التجربة الواقعية. رفض الثمن الذي دفعه البعث بحل الحزب عندما قبل قادته بالوحدة، رفضه كثير من الكوادر للحل ومنهم إبراهيم. حصلت الوحدة وجاء معها واقع الهيمنة المطلقة لجهاز الحكم المصري على الإقليم السوري، اُستبعد أغلب السوريين عن مواقع القرار، جاء عبد الحكيم عامر الى الاقليم السوري ليقود الحكم فيها. كان لاستلام عبد الحميد السراج للشعبة الثانية (المخابرات) والدور البوليسي القمعي له وأجهزته دورا مؤذيا لواقع السوريين وانتمائهم الوحدوي. كان الناس موزعين بين إطلالة عبد الناصر ووعوده لهم بحياة أفضل وبين واقع ممارسة اجهزته البوليسية القمعية. كان لغياب الحزبية وحضور الاستبداد أكبر الأثر على ما ستؤول إليه الأمور وحصول الانفصال. طبعا لن يغيب العامل الخارجي المعادي لعبد الناصر والوحدة كمبدأ، لكنهم استفادوا من أخطاء أجهزة حكم عبد الناصر وأسقطوا الوحدة عام ١٩٦١م. كان لسقوط الوحدة تأثيرا قويا جدا على إبراهيم وأغلب الشعب السوري. رفضوا الانفصال بالمطلق وخرجوا مطالبين بالوحدة مجددا. كان إبراهيم ناقدا لأخطاء الوحدة لكن لم يكن معاديا لها كمبدأ وواقع معاش ابدا. أصبح بعد الانفصال واحدا من المناضلين من أجل عودتها، غادر البعث بعد أن وقع قادته على الانفصال، أصبح رمزا ناصريا، ناضل من أجل الوحدة في عهد الانفصال، وفي عهد البعث الذي استلم الحكم بعد حركة آذار ١٩٦٣م، تلك التي قام بها الناصريين والبعثيين. وتم اقصاء الناصريين، وأعدم بعضهم من الذين حاولوا الانقلاب على البعث، وهرب قائدهم جاسم علوان الى مصر. ماتت الوحدة وأصبحت حلما مستحيلا. ذاق إبراهيم السجن والاعتقال والتعذيب في كل العهود بعد إسقاط الوحدة. كان ينتمي لحزب الوحدويين الاشتراكيين الذي ضم بعض البعثيين السابقين الرافضين للانفصال. كان موقف قيادة حزب البعث الموقع على بيان الانفصال طلاق نفسي وواقعي مع البعث وادعاءاته. عاش إبراهيم ألم الاعتقال والسجن وذله، وعاش خيبة تنازل قيادة حزبه الوحدويين الاشتراكيين للسلطة البعثية الجديدة والتحاقهم في ركابها، وحصولهم على بعض فتاة مكتسباتها. لقد طعن من حزبه ومن قادته وفي عمق انتمائه. أصبح إبراهيم مهموما بحال الأمة وما وصلت اليه، إسقاط الوحدة، هيمنة البعث واستبداديته في مرحلة حكم أمين الحافظ، وكان ختامها في هزيمة البعث السوري وعبد الناصر والأردن في حزيران١٩٦٧ م أمام (إسرائيل). حيث خسرت سوريا الجولان، واحتلت سيناء المصرية، كذلك الضفة الغربية والقدس التابعتين لمملكة الأردن. لقد أظلمت الدنيا في وجه إبراهيم وجيله معه. لم يستطع عبد الناصر أن يحمي الوحدة من أخطاء الحكم والاستبداد من الداخل، ولا منع الانفصال وها هو يدمي قلب إبراهيم بحصول هزيمة حزيران ١٩٦٧م امام (إسرائيل).
عاش إبراهيم مع جيله كل ذلك. الآمال والأحلام والخيبات. لم يتخل عن تمرده ومواقفه النقدية من كل ما يحيطه، ولا نزعته نحو الحرية التي جعلته دائما في الواجهة يُصادم ويتلقى الضربات ويصنع من نفسه نموذجا لمن يحيطون به. لكن واقع حاله في العمق؛ أنه كان يبحث عن يقين واقعي وحياتي له وللناس عموما ويراه دائما عصي عن التحقق.
أحب إبراهيم الكثير من الفتيات ففي كل قرية نائية يصل إليها معاقبا من جهازه التعليمي، كان له بيوت تستقبله وقلوب صبايا تحتضنه. كانت تلك القلوب واحته التي تجعل حياته ممكنة التحمل وتستحق أن تُعاش. عاش تجارب كثيرة متغيرة دوما، ترتبط بكونه لا يستمر طويلا حيث هو في مدرسته الجديدة في تلك القرية النائية. لأنه سيجد السبب الذي يجعله يصطدم مع الادارة او بعض المدرسين لأسباب مسلكية أو سياسية. نزعة التحرر ورفض الخطأ والتحفز لمواجهة أي اساءة اعتبارية له، تجعله دائم الاستعداد للصدام وأخذ حقه بيده، ويجد نفسه منفيا الى بلاد اخرى وأجواء مختلفة ليجد أناسا يتقبلونه وقلوب صبايا تحتويه. كنا نتابع كقرّاء البيئات الاجتماعية المختلفة التي يتنقل فيها إبراهيم. القرى المرمية على الحدود مع تركيا وناسها الذين يتقنون التركية أكثر من العربية. قرى الساحل السوري واغراقها في العزلة والحياة المنقطعة عن العالم. والجنوب السوري درعا وغيرها كثير. كان يجد إبراهيم في كل تلك الأماكن شجرة حب وارفة يتفيأ تحت ظلالها.
لم يستسلم إبراهيم لما حصّله من العلم، تابع دراسته للحصول على شهادة البكالوريا وحصل عليها. بدأ بدراسة الحقوق، عاش هاجس كتابة رواية كتبها ولم يكملها. عاد بعد تنقله من غصن حب الى آخر الى ابنة بلده أمينة التي أحسّ اتجاهها مشاعر مختلفة عن الأخريات، اتفق معها على الزواج، رغم رفض أمه لتلك العائلة، خطبها وتزوجها. كان يغيب عنها عبر تنقلاته الكثيرة بين المدارس وكان يأخذها معه أحيانا حيث يعمل ويسكن. كانت حياته العائلية مستقرة نسبيا، ولم تكن تمنع نفسه من الحب العابر الذي يهاجم النفس أينما حل إبراهيم وهاجمه حضور فتاة جميلة تميل إليه أو يميل إليها. أنجبت زوجته ابنه جمال وعاش وزوجته الفرحة به، كان يملأ عليهم حياتهم. لكن القدر لم يمهل الطفل سرعان ما مرض بعد أن بدأ بالسير وتلمس المحيط. مرض عالجوه بكل السبل لكن الموت أخذه وزرع في نفس إبراهيم وزوجته غصة لم يستطيعا تجاوزها.
تنتهي الرواية عندما يخرج إبراهيم من السجون والمعتقلات التي قضى به الكثير من عمره، قاسى فيها من التعذيب الجسدي والمعنوي الكثير وذلك لانتمائه الناصري، ولكونه ضد حكم البعث ويهاجم النظام عبر رمزه الحاكم (ابو عبدو الجحش) كما كان يلقب أمين الحافظ. لكن يقين إبراهيم الداخلي بقي في عبد الناصر الأمل وكضمان للعرب وللمستقبل، وكان يقبل كل ما يعيشه طالما هذا الضمان حاضرا وفاعلا وعليه تنعقد الأمنيات. لكن هزيمة حزيران ١٩٦٧م بالمواجهة مع العدو الصهيوني. أعادت إبراهيم لواقعه المر وهو أن عبد الناصر الرمز قد هزم مجددا، مرارة سقوط الوحدة في فم إبراهيم، وها هي الهزيمة تعيد إبراهيم الى نقطة الصفر في حياته ونفسه وفكره. لماذا انهزمنا وكيف نتجاوز هذه الهزيمة وأن عبد الناصر نفسه تحت المساءلة وأن اليقين غادر إبراهيم مجددا.
في تحليل الرواية نقول:
٠ نحن أمام رواية مركبة ايضا، فهي بمقدار ما تتحدث عن حياة شخص متابعة نوازعه واعماله وحياته، طموحاته نجاحه وفشله. تتابع في ذات الوقت جيل الخمسينيات التي ينتمي إليه إبراهيم، جيل التحرر من الاستعمار والوحدة والانفصال الجيل الذي تجرع هزيمة حزيران ١٩٦٧م. وما تعنيه من ضرورة مراجعة كل شيء. جيل الآمال الكبيرة والخيبات الأكبر. الجيل الذي وقع أخيرا اسير الانظمة الاستبدادية التي صادرت الدولة والمجتمع. عاشت الهزائم وهيمنت على الشعوب واسّست لتحويلها الى قطيع من العبيد.
٠ الرواية سجل تاريخي مجتمعي دقيق، يوضح ذلك المعلومات المدونة في ختامها، دليلا لمن لم يعرف شخصياتها التاريخية وأحداثها. ليعود الى تلك المرحلة ويعرف تفاصيل ماضيه الذي أسس لكل ما نعيشه اليوم. صحيح أن الحدث الروائي ينتهي قبل أكثر من خمسين عاما من الآن لكنه كان العصر المؤسس للآن. الحكم المستبد في سورية الذي ما زال مستمرا وكيف استغل وامتهن واستعبد الشعب السوري عبر عقود. غياب عبد الناصر والهزيمة التي لم يمسح عارها، موت عبد الناصر غيّب أملا بقيادة تاريخية؛ لها من يحبها ومن يكرهها. بعده امتلأت الساحة العربية بحكام مستبدين مؤبدين، وشعوب ضحية خانعة، من المحيط للخليج.
٠ الرواية تعيش ذات بطلها إبراهيم تدخل لتلافيف عقله وقلبه ونفسيته. كنموذج لعصره وللشباب في سنّه. كان الحضور الذاتي لإبراهيم طاغي في الرواية، لكنه جزء من واقعه منغمس به. مسكون بالتخلف الذي يرفضه. يواجه الاستبداد يحلم بحياة أفضل له ولكل الناس. يعيش الحب والحرية كالهواء الذي يتنفس. كان ابنا لزمانه، وابنا لنوازعه الإنسانية التواقة للحرية والعدالة والحياة الافضل؛ كل الوقت. يبحث عن نقطة النور والخير دوما، يتوجه بكل جوارحه لها. مخلصا لإنسانيته وحقوقه. دفع الثمن الاغلى من حياته عبر الاعتقال والسجن وفقد حريته للوصول لآمال كانت كل الوقت بعيدة المنال، لكنه لم ييأس أبدا.
٠ أخيرا الرواية مهمة كنموذج يعيد احياء مرحلة تاريخية مهمة لسورية والعرب، الخلفية الروائية مهمة والعمق المعرفي ضروري. فمن لا يعرف ذاته ويدرك واقعه، سيدفع ثمن الأخطاء التي حصلت سابقا ولم يدركها، والتي ستتكرر مستقبلا. كما ان الرواية تؤسس لفهم طبيعة نظام الحكم الاستبدادي السوري منذ سنواته الاولى. الذي سيتحول لبنية عسكرية امنية طائفية تمتص خيرات البلاد وتستعبد العباد عبر عقود، نموذجها السلوكي القمع والمعتقلات والسجون. ستؤسس الرواية -مع غيرها- قاعدة معرفية ان هذا الواقع وهذا القمع لابد أن يواجهه الشعب بالثورة، كل الوقت، وبأشكال مختلفة، كانت ذروتها الثورة السورية المنطلقة في ربيع ٢٠١١م، المستمرة للآن بكل ما رافقها من آمال وخيبات وخسارات وتضحيات. لأنها التعبير عن التوق الفطري للإنسان، أن يكون حرا، يعيش بكرامته الإنسانية، وأن تتحقق العدالة الاجتماعية والديمقراطية، وتؤسس لحياة أفضل تعاش فعلا، ولا تبقى سرابا.