النقطة الأوضح في التقارب السعودي السوري أن محور المقاومة لم ينْسبه إلى “إملاءات الإمبريالية الأميركية والصهيونية”، أو إلى “مؤامرةٍ” تهدف إلى تدخل خارجي في سورية… كما حصل منذ عشر سنوات، عندما علّقت جامعة الدول العربية عضوية سورية، بعد عام من اندلاع الثورة، وارتكاب بشّار الأسد جرائمه الموصوفة.
قبل السنوات العشر تلك، تقدّمت الجامعة والسعودية، بما سمّتاها “مبادرة للحل في سورية”، طالبتا فيها الأسد بـ”وقف أعمال العنف” و”الإفراج عن المعتقلين” و”إخلاء السلاح” … وناشدتا كل تيارات المعارضة السورية بـ”الاتفاق على برنامجٍ موحّد لإدارة المرحلة الانتقالية المقبلة”. والآن، بعدما أخفقت هذه المعارضة بالقيام بالحد الأدنى المطلوب منها، وبقي بشّار الأسد “على رأس سورية”، يُصدر العرب، بقيادة السعوديين، بيانا، يدعو إلى “حل سياسي” في سورية، وحلٍّ “لأزمتها الإنسانية”، والحفاظ على “سيادة سورية” عن طريق “مؤسّسات الدولة”، و”على وحدة سورية، وأمنها واستقرارها، وهويتها العربية”، و”عودة اللاجئين والنازحين”، و”مكافحة تهريب المخدّرات والاتجار بها”، و”إنهاء وجود المليشيات المسلحة، والتدخلات الخارجية”. وتشدّد السعودية على مسألة المخدّرات هذه، وتعطيها الأولوية. حبوب الكبتاغون التي عُرفت بها سورية في السنوات ما بعد الثورة، وصارت أول من يصنّعها عالميا، فتكون نقطة تباحث أولى بين وزيرَي الخارجيتين السعودي والسوري، في الرياض.
تهدّئ السعودية الجبهات مع محور الممانعة. حسناً تفعل، حفاظاً على مصالحها، على مشروعها “التنموي، الانفتاحي”، ويأسا من أميركا، بعد حربها في اليمن، ورخاوتها مع إيران. أو ربما نكاية بها، كما يعتقد بعضهم. في اليمن، يستعجل السعوديون، بسبب تورّطهم المباشر في حربها، وربما لبساطة ديناميكيتها، قياساً إلى عشّ الأفاعي الذي يربط خيوط سورية الداخل ببعضها، فكان مشروعهم للمصالحة أو التقارب مع خصومهم الحوثيين واضحاً دقيقاً، بثلاث مراحل تمتدّ على ثلاث سنوات، بوشّر بتنفيذها منذ أيام: تثبيت وقف إطلاق النار، إطلاق السجناء اليمنيين والسعوديين، دفع رواتب الموظفين في المنطقتين المتحاربتين. وجانبياً، وضع “رئيسهم الشرعي”، عبد ربه منصور هادي، الذي عيّنوه، خلف المشهد، بما يُنبئ بتغيرٍ آخر للوجوه التي سوف يعتمدونها لاحقاً، فيما تبقى الوجوه الخصمة، الحوثية، على ثباتها.
في سورية، يطرح هذا التقارب تساؤلاتٍ أصعب من تلك المطروحة على اليمن. فبخلاف اليمن، تحتل سورية جيوش متعدّدة: الرسمية منها روسية، إيرانية، تركية، إسرائيلية، أميركية، بعض الأوروبية، وغير الرسمية، مليشيات، تابعة للغالبية، علنية، إيرانية، عراقية، تركية، وأخرى، علنية أو شبه سرّية، كردية، سلفية، جهادية، داعشية.
وإذا اعتمدنا التشديد السعودي على مكافحة تهريب الكبْتاغون وصناعته، فستكون الأنظار متجهة نحو الأسد. وهذا الأخير، كيف سيأخذ قراره بهذه “المكافحة”؟ هل يحتاج إلى “توافق” كل الجيوش المحتلة أرضه؟ أو نصفها؟ أو إلى التوافق بين هذه الجيوش وأخيه ماهر، البطل المسيطر على هذه الصناعة، وعلى تجارتها؟ وفي هذه الحالة، هل يستطيع ماهر الأسد وحده، من دون “توافق” آخر، مع “مكوّنات” القوى الحاكمة على الأرض؟ هل يلعب على تنافسها؟ على ضعف روسيا في حربها على أوكرانيا، مثلاً، هي فرصته لإزاحتها، في مواقع معينة، لصالح شركاء بالسياسة أو التجارة … إيرانيين، سلفيين، أكراد؟
“مكافحة المخدّرات”، تلك النقطة السهلة في الأجندة السعودية، استجاب لها بشّار بسرعة، متشاطراً، كالعادة، مزهوّاً. سارع إلى تغيير الطاقم الجمركي القديم واستبداله بموظفين “نظفاء” جُدد، وإقفال حدوده الشرقية … وكأنه يمغْمغ، أو يهيئ نفسه للمراوحة. فبند “مكافحة المخدّرات”، مثله مثل البنود الأخرى، اللاجئين، الاستقرار، الأمن، الهوية العربية … يصب كله في تلك “السيادة السورية” التي يحرص عليها السعوديون، في خطوتهم هذه. ولكن، كل نقطة، كل بند، سوف يكون تجسيداً لانعدام هذه “السيادة”. سوف يدخل في متاهات الجيوش المحتلة أرض سورية، مصالح دولها، تكتيكاتها، إستراتيجيتها الإقليمية أو الدولية … قد تصطدم واحدةٌ منها باعتراض روسي، أو إيراني، او أميركي … أو حتى صيني، الراعي الأعلى لهذا التقارب.
كيف ستسلك هذه البنود دهاليز مصالح هذه الجيوش المحتلة وتطلعاتها؟ ما هي الخطّة الدقيقة، على غرار التي يتمتع بها اليمن؟ ما هي الأقنية؟ ما هي السنوات اللازمة؟ أم أن السعودية تريد، عبر هذا التقارب، أن تضيف إلى الجيوش الأجنبية المحتلة، جيشاً آخر، “قوات ردع عربية” مثلا، تكتسب بعد فترة صفة الوصاية على سورية؟
حسناً، هذا بالنسبة للمصالح العليا للدول. أما عن مصلحة الشعوب، التي لم تُسأل عن هذا التقارب، فما هي الفكرة المغرية التي قد تكسبها منها شيئاً ما؟ فكرة ما؟ مشروعا ما؟ كيف لها أن يخرج بشّار هكذا، إلى خشبة المحترمين المكرّسين، نظيفاً، من دون أي حساب؟ على رأسه إكليل جرائم “صناعية”؟ بشّار الذي ساعده القدر، ككل مرة، بزلزال سرّع من عودته، ومنذ اللحظة الأولى، إلى “الأحضان العربية”.
هذا التقارب السعودي السوري، تجاهل جرائم بشار الأسد… حسناً، ما هي الفكرة التي قد تغري الشعوب للنظر إليه، بصفته يعبّر عن شيء من أملها؟ أو مصالحها؟ حتى لو كانت بعيدة المدى؟ بعد غياب العدالة عن الفكرة، تبقى “العصبية” التي قد تلْتفّ حول هذا التقارب … وقد ذكرها قاموسه بكلمتين “عروبيّتين”، أملاً، متكاسِلاً، بترحيب هذه الشعوب به، بأن تكون محبّة لبعضها، متآزرة متضامنة. فيما هي في الواقع شعوب ممزّقة من داخلها، مخترقة، بائسة، مطيّفة، ممذْهبة، متقاتلة، تكره بعضها، وتكره غيرها. إذن، لا مشروع ولا عقيدة ولا عصبية يمكنهم إقناع التاريخ بأن التقارب السعودي السوري سوف يمشي على الحرير.
أما المعارضة السورية، بهيئاتها المختلفة وبشخصياتها، فالأرجح أن بعضها سوف ينضم إلى التقارب ويلعب دور “السوري المفيد”، وبعضا نقيضا قد يراجع التجربة برمتها، خصوصًا تلك التي أخفق فيها في تشكيل وحدته بها، ويحتجّ بأن التقارب السعودي السوري لم ينصّ على الحل السياسي، والقرار الأممي، وعلى مفاوضات وإصلاحات … وبينهما من طحنَه اليأس أو الأمل، وأراد ان يصدّق أن لا علاقة بين “عودة اللاجئين” والسكوت التام عن جرائم بشّار الأسد. إذ يفترض هذا السكوت أن اللاجئين سيعودون إلى أحضان من قتلهم وهجّرهم، ونفذ برنامجه: “الأسد إلى الأبد”.
المصدر: العربي الجديد