لعل السؤال المحوريّ حيال ما يشهده الإقليم من تطورات، وآخرها عودة العلاقات السعودية – السورية والحراك العربي المُتسارع لعودة دمشق إلى الجامعة العربية، يكمن في حقيقة ما يريده رأس النظام السوري، الذي تجاوز أي تهديد بسقوطه بعد 12 سنة من ثورة شعب انتهت بتحوُّل الطيف الأكبر منه إلى لاجئ ومُشرَّد داخل البلاد وخارجها، وتقسيم البلاد إلى مناطق سيطرة ونفوذ متعددة روسية، وإيرانية، وتركية، وأمريكية.
يشعرُ بشار الأسد اليوم بأنه في موقع قوّة، وأن قرار الانفتاح العربي عليه حكمته التحوُّلات الكبرى الحاصلة في المنطقة والعالم. ينطلق من قراءة أنه هو مَن بقي في مكانه وأن الآخرين هُم مَن يأتون إليه. بهذا المنطق يتعامل مع ملف تطبيع العلاقات مع تركيا ويُصعِّد مِن شروطه، رغم الضغوط التي يُمارسها عليه الحليف الروسي لتحقيق «إنجاز ما» يمكن أن يُجيِّره الرئيس التركي رجب طيّب اردوغان لصالحه في الانتخابات الرئاسية التركية في 14 أيار/مايو في وجه المعارضة، بعدما أضحتْ ورقة اللاجئين السوريين أحد العناوين السياسية البارزة في الانتخابات قبل أن يُضيف «الزلزال المدمِّر» مزيداً من التحديات على الاستحقاق التركي، الذي ستنعكس نتائجه على خارطة تحالفات أنقرة الإقليمية والدولية.
في عقل الأسد أن أزمنة صدور بيان جنيف والقرار الدولي 2254 والتي كانت مرتبطة بموازين القوى في تلك الفترة قد تبدَّلت، وأن هناك قواعد جديدة حاكمة. فالتدخل الروسي المباشر في أيلول/سبتمبر 2015 دعماً للنظام، غيَّر مسار الحرب التي دخلت عليها عوامل ظهور تنظيمات إسلامية متطرفة من جديد، وفي مقدمها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام». وقد استعاد سيطرته على مساحات واسعة، وإنْ كانت مشكلته الرئيسية أن موارد الدولة من غذاء، ومياه، ونفط لا تقع ضمن مناطق نفوذه. وأدخل إلى قواعد الاشتباك «حرب الكبتاغون» بمعية إيران وأذرعها اللبنانية والعراقية كمصدر لتمويل النظام ورجالاته والميليشيات من جهة، ولإغراق الخليج، ولا سيما السعودية، بالمخدرات من جهة ثانية، كجزء من أدوات الحرب الإيرانية على المملكة.
تلعب موسكو منذ سنوات دوراً بارزاً من أجل إعادة تطبيع علاقات الأسد مع الخليج. ما يهمُّ موسكو هو عودة العلاقات السعودية – السورية انطلاقاً من الاقتناع بأن الرياض تُشكِّل الرافعة بثُقلَيها السياسي والاقتصادي وتفتح الباب لدخول الأسد إلى الحاضنة العربية من جديد. كانت المبررات الروسية لاجتذاب الدول العربية المُقاطِعة أن مواجهة الوجودين الإيراني والتركي في سوريا لا يمكن أن يحصل من دون انخراط عربي وازن في هذا البلد. بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وما آل إليه من تحوُّلات جيوسياسية، ما زالت غير واضحة المآلات النهائية، إنما شكَّل الاتفاق السعودي-الإيراني، بضمانة الصين، أحد تجلياتها بحيث فتح الباب أمام إعادة ترتيب أوراق المنطقة، أقلّه على مستوى تبريد وتهدئة الساحات الساخنة والمضطربة التي لإيران تمدُّد فيها عبر أذرعها العسكرية، ونفوذ سلبي يُؤثِّر على الأمن القومي العربي.
في معلومات مقرَّبين من النظام السوري أن الأسد ليس متحمساً، ولا تكمن مصلحته في عودته إلى الجامعة العربية، بل إن رغبته وطموحه هما في الاستثمار بإعادة حضوره وتوطيد علاقاته مع كل دولة عربية تريد أن تنفتح عليه كـ»سوريا الأسد». عينه على وصل ما انقطع مع المملكة نظراً لما يمكن أن يُريحه داخلياً، سواء اقتصادياً على مستوى بعض الاستثمارات الناعمة أو على مستوى العلاقة مع سنَّة سوريا، وإن كان يُقرُّ أنَّ لتركيا دوراً أيضاً في هذه الحيثية.
فتحتْ زيارة الرئيس السوري إلى سلطنة عُمان الأُفق أمام الحراك الراهن. تُبدي الرياض رغبة في أن تكون الجامعة العربية غطاء لهذا الانفتاح وعنصر ضغط لحركة جماعية، فيما الأسد يبني خطته على قاعدة أنه ليس في وارد السير بأي حلول كبيرة يُقدِّم من خلالها تنازلات كبرى ما دامت أمريكا خارج المشهد.
لم يخرج بيان مشترك عن وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي، ومصر، والأردن، والعراق، بعد اللقاء التشاوري في جدة ليلة الجمعة – السبت، إنما صدر بيان للخارجية السعودية. وعزت أوساط على علاقة بمجلس التعاون السبب إلى استمرار وجود معارضة قوية، ولا سيما من قبل قطر، لعودة سوريا غير المشروطة وغير المضمونة على أنها قد تقوم بالإيفاء بالتزاماتها بالحل السياسي. وفي هذه الحالة تمنع معارضة قطر وتصويتها السلبي تلك العودة، إذ إن قرار الجامعة بإعادة سوريا إلى مقعدها بعد تعليقه عام 2012 يتطلب إجماعاً، ويمكن تمريره بوجود أصواتٍ ممتنعة ولكن ليس أصواتاً مُعترضة. تضمَّن بيان الخارجية السعودية تأكيداً على أن الحل السياسي هو الحل الوحيد للأزمة السورية، وعلى أهمية أن يكون هناك دور قيادي عربي في الجهود الرامية لإنهاء الأزمة، ووضع الآليات اللازمة لهذا الدور، وتكثيف التشاور بين الدول العربية بما يكفل نجاح هذه الجهود، وتطلع لاستمرار التشاور في هذا الشأن. وفي معلومات تلك الأوساط أن اجتماعاً آخر سيتم عقده في العاصمة الأردنية وسيتم بحث مقترح قُـدِّم في اجتماع جدة لتشكيل لجنة مساع عربية تضم في عدادها الجزائر للمساعدة على الحل السياسي وللتأكد من مدى جدية الأسد وصدقيته في الالتزام بمندرجات الحل السياسي. وأشار بيان جدة إلى ما جرى الاتفاق عليه لجهة «أهمية حل الأزمة الإنسانية، وتوفير البيئة المناسبة لوصول المساعدات لجميع المناطق في سوريا، وتهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مناطقهم، وإنهاء معاناتهم، وتمكينهم من العودة بأمان إلى وطنهم، واتخاذ المزيد من الإجراءات التي من شأنها المساهمة في استقرار الأوضاع في كامل الأراضي السورية» فضلاً عن «أهمية مكافحة الإرهاب بأشكاله وتنظيماته كافة، ومكافحة تهريب المخدرات والإتجار بها، وأهمية قيام مؤسسات الدولة بالحفاظ على سيادة سوريا على أراضيها لإنهاء تواجد الميليشيات المسلحة فيها، والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري».
على الضفة السورية، لا يذهب عقل الأسد في اتجاه الالتزام بمنظومة الحل الكلاسيكي، الذي شمله القرار 2254 وتغيير في بنية النظام والعمل للوصول إلى «سوريا جديدة» وما شابه من خطوات، إنما يُريد أن يستثمر في الانفتاح عليه كي يلتف على مسار الحل الكلاسيكي، خاصة أنه ينطلق في قراءته من أنَّ التحوُّل لدى الدول العربية المنفتحة عليه فرضته التحوُّلات الجيوسياسية، وشكل الزلزال توقيتاً مؤاتياً لإظهار التبدُّل في الموقف العربي حياله.
ماذا يمكن أن يُقدِّم الأسد مقابل الانفتاح العربي وخصوصاً السعودي؟ يُجيب المقرَّبون من النظام السوري أن دمشق يمكنها أولاً، أن تُقدِّم في ملف «الكبتاغون» الذي يُقلق السعودية، وتخوض حرباً شرسة لمنع تغلغل تلك الآفة في المجتمع السعودي الشاب. ويمكنها ثانياً، أن تدفع باتجاه الحضور العربي في منطقة الجزيرة، الخارجة عن سيطرتها، والواقعة تحت سيطرة الأكراد والأمريكيين. وهي بذلك تكون قد باعت الرياض أوراقاً لها تتعلق بالبيئة القبلية في تلك المنطقة ليست في جيبها.
يُراهن الأسد على دخول سعودي ناعم إلى الاقتصاد والواقع السوري، وعلى خطوات مُتدرجة ومُتدحرجة. يعلم أن الأرضية السياسية لإعادة الإعمار غير مهيَّأة ما دامت سوريا ساحة صراع، بفعل وجود هذا الكمّ من اللاعبين الإقليميين والدوليين، إنما من شأن أي خطوات محدودة أن تُساهم في حلحلة الوضع الاقتصادي الصعب الناجم عن العقوبات الأمريكية من دون أن تكون هناك مشاريع كبرى مرتبطة بنهاية الحرب التي ما زالت بعيدة.
لكن طموح الرجل أبعد من ذلك. وهو أن يستعيدَ دور والده حافظ الأسد في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات في العلاقة ما بين الخليج العربي وإيران، بمعزل عمّا إذا كان اليوم قادراً على لعب هذا الدور. يُراهن الأسد من جديد على عامل الوقت. مرَّ قطوع سقوطه ونظامه، وما دون ذلك لن يكون أصعب. هكذا ينظرُ إلى نفسه وإلى سلطته في حُكم ما تبقى من سوريا.
المصدر: القدس العربي