منذ ما قبل الإستقلال نشأة الدولة السورية عبر اتفاقية سايكس بيكو . ومع الاستقلال تواكبت على حكم سورية رموز أقليات وطنية كانت نتاجا من نتاجات فعل الانتداب الفرنسي الذي رحل بعد أن خلف حاضنة عسكرية مؤهلة وقادرة على حكم البلاد لعقود طويلة . وبقصد أو بدون قصد لم يتم تسليط الضوء على دور سلطة الانتداب الفرنسي في بناء وترسيخ الكيان الجديد للدولة السورية. إذ عمدت سلطة الانتداب الى حماية الأقليات الطائفية أو الإثنية وثبتت وجودها كفاعل محوري في مفاصل بنية سلطة الدولة . وتأسيسا على ذلك فقد لجأ الفرنسيون الى إنشاء فرق نظامية تم تدريبها وتسليحها لتأتمر بهم عبر ما سمي ” قوى الشرق الخاصة ” قوامها البشري من الأقليات على تنوعها في مواجهة الأكثرية , واستخدامها عسكريا لقمع انتفاضات الأكثرية , وتكريساً لاستمرار الدولة الجديدة . لتتمظهر في المراحل اللاحقة – بعد الاستقلال – بشخصيات وزعامات عسكرية خطفت السلطة السياسية عن طريق الانقلابات مثل حسني الزعيم وأديب الشيشكلي وفوزي سلو من ذوي الأصول الكردية , والضباط الآخرين من الأقليات الأخرى التي تنوعت أدوارهم ومراكزهم , وصعودهم وهبوطهم على سلم السلطة من تاريخ إعلان الاستقلال وحتى اليوم .
وخلال الفترة الممتدة من يوم الاستقلال وحتى الآن – واستثناءاً نسبياً الفترة القصيرة بعد الاستقلال – عاش الشعب السوري في ظل الاستبداد والاستغلال والظلم من سلطات استئثارية صادرت السلطة والثروة معاً , وأمعنت في انتهاك الحريات على مدى عقود , ولم تفرق تلك السلطات بين الأكثرية والأقلية , بل وربما كانت معانات الأكثرية من الظلم والقهر والاضطهاد أشد وأكبر . إذ لا معنى لما تروجه بعض الأقليات عن الحيف والظلم عليها , فكلنا في الهم سواء .
تلك مقدمة لا بد منها للولوج في ميثاق العقد الاجتماعي الصادر عن القوى الكردية في سورية بتاريخ 21/1/2014 الذي يطرح وينشئ مركزا قانونيا جديدا لأكراد سورية تحت مظلة الإدارة الذاتية الديمقراطية .
وقبل البدء بمناقشة هذا الميثاق , لابد من الوقوف على تعريف العقد الاجتماعي والإدارة الذاتية . فالعقد الاجتماعي مفهوم يتجه إلى إيجاد معادلة موضوعية بين الحاكم والمحكوم , ووضع إطار لتنظيم العلاقة بينهما , وصولا الى إقامة مجتمع منظم وفق قواعد ثابتة . أما الإدارة الذاتية : فهو مفهوم غير واضح , ومصطلح لا يوجد له مدلول قانوني في القانون الدولي , إذ لا يوجد في القانون الدولي مسمى الإدارة الذاتية . ويعتبر لدى بعض المنشئين لهذا المصطلح نوع من الادارة المحلية ضمن قانون الادارة المحلية للسلطة المركزية في الدولة . كما أن مفهوم الادارة الذاتية الديمقراطية مفهوم غامض ومبهم حتى لدى الاحزاب الكردية السورية التي أعلنت عن العقد الاجتماعي . ويعتبر الدارسين الأكراد أو الذين صاغوا العقد الاجتماعي بأن الادارة الذاتية الديمقراطية حلا للمجتمعات ذات التنوع القومي والطائفي كمرحلة انتقالية الى المجتمع الديمقراطي والذي يمكن من خلاله أن تصبح فرصة استقلالية الأمم وحتى تكوين الدولة القومية خيار مجتمعي تفاهمي وتوافقي .
ومن استعراض وتوضيح تعريف مفاهيم العقد الاجتماعي والإدارة الذاتية … فإننا نبدي حول ميثاق العقد الاجتماعي الملاحظات التالية :
1- دستور الدولة مجموعة القواعد الاساسية التي تنظم العلاقة بين مختلف سلطات الدولة وتحدد اختصاصاتها وطرق ممارستها للصلاحيات المخولة إياها وتحديد آليات عملها , وتحديد الحقوق والواجبات للمواطنين وكيفية الوصول إليها وتنفيذها مع ضمانات حماية هذه الحقوق والحريات . وتبعا لذلك فإن ميثاق العقد الاجتماعي في حقيقته دستور يتضمن كافة قواعد ومستلزمات دستور أية دولة مستقلة . بينما العقد الاجتماعي لا يعدو اكثر من مفاهيم تقود إلى إيجاد معادلة موضوعية بين الحاكم والمحكوم وتنظم العلاقة بينهما وصولا الى مجتمع منظم . ويبدو أنه قد لجأت القوى الكردية الى طرحه باسم ميثاق العقد الاجتماعي لعدم نضج الظروف لطرحه كدستور لما قد يثير من إشكالات محلية وإقليمية ودولية . ولكن مجمل نصوص الميثاق تشير بوضوح الى مشروع تأسيس دولة بكافة أركانها وشروطها .
2- الدولة هي النظام المسؤول عن حماية الحقوق الفردية والجماعية . وللدولة ثلاثة أركان : الأرض ( الاقليم ) , الشعب , السلطة . وتعتبر السيادة من أهم صفات السلطة , ووجود الإقليم والشعب ليس كافيا لسيادة الدولة ووجودها وتواجدها . والسلطة السياسية هي الهيئة الحاكمة التي تضمن سلامة الدولة واستقرارها وأمانها وقدرتها على سن القوانين التي تحترم المواطنين بما يحقق العدالة والمساواة . في حين أن ميثاق العقد الاجتماعي وإن قرر في المقدمة باحترام الحدود السورية وإن مقاطعات الادارة الذاتية جزء من سوريا جغرافيا واتفاق مكونات مجتمع الادارة الذاتية الديمقراطية مع إرادة بقية مكونات الشعب السوري لتكون الادارة الذاتية ضمن سورية التعددية الديمقراطية كنظام سياسي وإداري للمجتمع . فإن هذا الميثاق يجسد كياناً جديداً لمشروع دولة يستند الى دستور يحدد لكيان الادارة الذاتية مجلسها التشريعي والتنفيذي ومفوضية الانتخابات ومحكمة دستورية عليا ومجالس محلية , بدون تحديد أية آليات وحدود وشكل العلاقة التي تربط الحكم الذاتي بالدولة السورية أو بالحكومة المركزية . وكل ما جاء فيه بالنسبة للحكومة المركزية في المادة / 91 / بأنه في حال التنازع بين قوانين الادارة الذاتية وقوانين الادارة المركزية تنظر في ذلك المحكمة الدستورية العليا للمقاطعة ويطبق القانون الأصلح للإدارة الذاتية . وهذه المادة وغيرها تعطي السيادة المطلقة لحكومة الادارة الذاتية ضمن مقاطعاتها , ولا توجد أية سيادة فعلية للإدارة المركزية للدولة السورية مادام لا يسري عليها قوانين الادارة المركزية التي تأخذ بالاعتبار مصالح عموم مواطني الدولة .
3- جاء في المادة /3 / آ : سورية دولة حرة ديمقراطية مستقلة ذات سيادة ونظامها برلماني إتحادي ديمقراطي تعددي توافقي . كما جاء في المادة / 12 / الادارة الذاتية الديمقراطية في سورية جزءاً من سورية المستقبل التي يجب أن تتأسس على نظام الادارة اللامركزية السياسية باعتبار النظام الاتحادي هو النظام الأمثل لسوريا .
وبالرغم من نص ميثاق العقد الاجتماعي على أن سورية تتأسس على النظام الاتحادي فإنه لم يحدد ايا من النظامين الاتحاديين ( الفيدرالي او الكونفيدرالي ) هو المعتمد . كما أن الادارة الذاتية الديمقراطية لا تتقاطع مع أي نوع من أنواع النظام الاتحادي . وحتى الحكومة المحلية التي يمكن أن تتواجد في إطار الحكومة المركزية في الاتحاد , فإن الحكومة المحلية أو الحكم المحلي وفقا لصلاحياتها المعروفة ومجالات عملها ودورها أقل وأدنى من مفهوم الادارة الذاتية الديمقراطية الواسع الذي يتبنونه . ذلك لان الادارة الذاتية وفق ورودها في الميثاق اوسع واشمل من الحكم المحلي . ومع ذلك فقد تعددت رؤى الاحزاب الكردية للإدارة الذاتية حيث أن “حزب يكيتي” يعتبرها نوع من الفيدرالية تيمناً بكردستان العراق , بينما “الحزب الديمقراطي التقدمي” يعتبرها نوع من الادارة المحلية ضمن قانون الادارة المحلية السوري , في حين “حزب الوحدة” يعتبرها نوع من الادارة اللامركزية التي تعتمد على إدارة المناطق الكردية من الشعب الكردي ولو كانوا ذوي أكثرية عربية لأن القضية قضية شعب وأرض .
وحيث ان كلا النظامين الاتحاديين ( الفيدرالي والكونفدرالي ) لا ينطبق على المعايير التي أرادوا إحداثها في الادارة الذاتية الديمقراطية , فإنهم أخذوا من كلا النظامين الاتحاديين بما يساعدهم على إنجاز استقلال ضمن إطار الوحدة المؤقت . فهم أخذوا من الكونفدرالية ملامح شخصية دولة جديدة لها قوات ردعها وشرطتها ووحدات دفاعها المشروع ومجالس تشريعية وتنفيذية وقضائية ومحاكم دستورية ومجالس لسن التشريع والقوانين والمصادقة على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وإعلان الحرب والسلم ومنح العفو العام والخاص .. واعتمدوا شعار وعلم ونشيد خاص ( مادة 11 ) وحتى قسماً ترتبط مفرداته بالإدارة الذاتية والدفاع عنها دون إدخال أي التزام تجاه الدولة السورية وقوانينها وسلطتها , ودون أية اشارة الى الالتزام بصيانة وحدة الاراضي السورية والدفاع عنها ( مادة 88 ) . وبالمقابل أيضا أخذوا من الفيدرالية جزئيا مبدأ وجود سلطة مركزية أعلى ضمن إطار الدولة السورية التي هم جزء منها , لكن إدارتهم الذاتية لا تعترف كما في الاتحادات الفيدرالية بأن للاتحاد سلطة أعلى على الولايات المكونه لها , ولا يعترفون بتبعية الحكومات المحلية لإشراف الحكومة المركزية لدولة الاتحاد . وهم يؤكدون في نصوص ميثاقهم ومن خلال تفاصيل مواده على الشخصية المستقلة للإدارة الذاتية مدعومة بمواد متعددة تكفل لها السيادة كالحماية الذاتية والدفاع المشروع عن سلامة اراضي المقاطعات وسيادتها الاقليمية وإعلان الحرب والسلم وإعلان حالة الطوارئ وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول … الخ
4- لقد حدد ميثاق العقد الاجتماعي في مقدمته بأن مكونات الادارة الذاتية الديمقراطية من كرد وعرب وسريان وأرمن وشيشان وغيرهم اتفقوا وعلى اساس قاعدة الوحدة في التنوع بأن تكون مناطق الادارة الذاتية الديمقراطية ضمن سوريا التعددية الديمقراطية . وفي المادة / 3 / بأن مقاطعات الادارة الذاتية الديمقراطية تشمل كل من : الجزيرة , كوباني , عفرين . وبأن مدينة قامشلو هي مركز الادارة الذاتية في مقاطعة الجزيرة . وفي المادة / 9 / بان اللغات الرسمية في مقاطعة الجزيرة هي : الكردية والعربية والسريانية . ( فقط مقاطعة الجزيرة ) .
إن تقرير ميثاق العقد الاجتماعي انضمام كل المكونات التي حددها في إطار الادارة الذاتية الديمقراطية بدون أخذ رأي أيا من تلك المكونات هو عملية قسرية لا ديمقراطية , وفرض لأمر واقع تم تحديده بناء على أوهام تاريخية أو تمدد جغرافي , واستغلالاً للوضع الهش في الدولة السورية ضمن ظروف الازمة الراهنة . والسؤال الذي يفرض نفسه هو : من فوض تلك القوى الكردية على اعتبار كافة الإثنيات والقوميات الأخرى ضمن الحدود التي فرضوها فرضاً , وعلى أي اساس افترضوا ان تلك القوميات قابلة وموافقة على الادارة الذاتية الديمقراطية التي يتحركون إليها ويؤسسون لها .
5- لقد فرض الحراك الشعبي السوري أشكالا من التحالفات بين القوى الكردية والمجالس والهيئات التي تشكلت على خلفية الحراك الشعبي . إلا أن هذه التحالفات إذا لم تتضمن أسس ومحددات تضمن سلامة وحدة الأراضي السورية والوصول الى الدولة الديمقراطية المدنية التعددية بمشاركة كافة الأطياف والاثنيات والأقليات , فإنها تبقى مهددة بالانفراط . ويشكل ميثاق العقد الاجتماعي المطروح من القوى الكردية خروجا واضحا عن القواعد والمحددات التي ينبغي أن تبقى خطاً أحمراً لكل من يخرج عنها . إذ لا يجوز لأي طرف ضمن أي تحالف أن يتصرف أو يعلن أو يتبنى أو يؤسس لما يخالف تلك الأسس والقواعد . وإلا فانه يضع نفسه خارج هذا التحالف أو ذاك , بقرار فعلي أو ضمني منه . وإذا كان ليس من مصلحة أحد تشتيت المعارضة وتشرذمها , كما ليس من المصلحة خروج القوى الكردية بعيداً عن تلك التحالفات , فإن الحوار المستمر معهم ضرورة لتثبيت قواعد ومرتكزات هذه التحالفات في إطار الدولة السورية الواحدة الموحدة التي لا تهمل حقوق الأقليات , وتؤمن بانعتاق كافة أفراد المجتمع من الاستبداد والاستغلال والسيطرة . ولذلك ينبغي الوصول مع القوى الكردية الى مشتركات تتضمن تعديلاً أو إلغاءً لعدد من المواد المرتبطة بميثاق العقد الاجتماعي وتحديد واضح لشكل العلاقة مع الحكومة المركزية للدولة الديمقراطية المنشودة . وإن إصرار تلك القوى الكردية على المضي بعيدا في تبني ميثاق العقد الاجتماعي فإنهم يضعون أنفسهم خارج تلك التحالفات وليس تلك التحالفات تضعهم خارجها .
وأخيرا لابد من القول بأن حق تقرير مصير الأكراد في سورية مرتبط بحق تقرير مصير مشروع الأغلبية في سورية , وبأنه عندما تنجز الأغلبية مشروعها في الدولة / الأمة , فإن من حق الأكراد أن يقرروا مصيرهم إما بالبقاء في الدولة / الأمة متمتعين بكافة الحقوق والوجبات كمواطنين متساوين , أو تقرير مصيرهم بإرادتهم الحرة . إذ كيف يمكن لمن لم يتقرر مصيره بعد , أن يضمن تقرير مصير أحد مكوناته أو أن يوافق على مشروع انفصاله عنه وتفكيك الدولة السورية ؟؟؟