نشرت مجلة “فورين بوليسي” مقالا أعده جون هوفمان، مدير الديمقراطية في العالم العربي الآن (دون) قال فيه إن المستبدين العرب باتوا يتبعون كتابا جديدا حول الدين. وأشار إلى أن “بيت العائلة الإبراهيمية” افتتح في 1 آذار/مارس في جزيرة السعديات في أبوظبي، وتم تقديم المبادرة على أنها منارة التسامح والحداثة في الشرق الأوسط، ويحتوي مجمع حوار الأديان على مسجد الإمام أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، وكنيسة سانت فرنسيس، وكنيس موسى بن ميمون. وتم تقديم المجمع كجزء من جهود الحكومة الإماراتية لتسويق تعزيز الانسجام بين الأديان بمنطقة عادة ما تصور على أنها تفتقد المساواة. وبدأ بناء هذا المجمع في عام 2019، بعد زيارة بابا الفاتيكان، للإمارات حيث قام إلى جانب الشيخ الطيب بالتوقيع على “وثيقة الأخوة الإنسانية” على أمل تعزيز الوحدة بالأديان.
ويقول الكاتب إن مبادرات موجهة من الحكومة ويتم تسويقها كآلية لدعم السلام والتسامح والاعتدال، أصبحت أمرا عاديا في عموم الشرق الأوسط وخلال العقد الماضي، إذ قامت دول مثل مصر والأردن والمغرب والسعودية والإمارات وغيرها الكثير بالإعلان عن سلسلة من المبادرات الدولية تركز على حوار الأديان ومواجهة التطرف والتفسيرات الدينية، ونشر ما يطلق عليه “الإسلام المعتدل”. ورغم النظرة المنفتحة التي تقدم صورة عن التسامح والاعتدال إلا أن نفس الحكومات تستخدم الدين لشرعنة القمع والحد من حرية المواطنين وتبرير السياسات القاسية.
ويتابع أن الإمارات ليست قمعية في الداخل ولكنها تبنت سياسة تدخل أدت إلى إطالة أمد الحروب وتسببت بكوارث إنسانية وحاربت التوجهات الديمقراطية وأثارت نفس المظالم التي قادت للاضطرابات بالمنطقة.
وتقوم الكثير من الدول العربية باستخدام الدين كأداة للقوة الناعمة إلى جانب وسائل مثل التبييض الرياضي والبيئي وغير ذلك من حملات العلاقات العامة التي تحللها من المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان والسياسات التي تزعزع استقرار الشرق الأوسط والحفاظ على دعم الغرب لها.
ويقول الكاتب إن الكثير من الدراسات الأكاديمية ركزت اهتمامها على الطريقة التي يدفع فيها الدين النتائج السياسية بالشرق الأوسط، مع أن انتباها أقل ركز على السياسة التي تحاول الدفع بنتائج دينية، والإسلام المعتدل هو واحد من الأمثلة عن الطريقة التي تدفع فيها السياسة نتائج دينية. وهناك عنصران في مفهوم الإسلام المعتدل الذي تسوق له الحكومات.
الأول، هو الترويج لنظرة سلمية وهادئة للدين والتي تؤكد على الطاعة المطلقة للحاكم، إذ تصور الحكومات طاعة الحاكم باعتبارها واجبا دينيا، فهي تروج لتفسير ديني خانع للدولة وغير قادر على تحدي شرعية النظام أو سياساته. وفي الوقت نفسه نزع الشرعية عن الأشكال الأخرى للمرجعية. وتلجأ الحكومات لتصوير أي شكل من أشكال الإسلامية أو الإسلام السياسي على أنه تطرف وراديكالية.
وساعد على هذا التوجه قوانين مكافحة الإرهاب التي انتشرت في الشرق الأوسط على موجتين، الأولى بعد هجمات أيلول/سبتمبر 2001، والثانية بعد الربيع العربي. وتمت صياغة هذه التشريعات بطريقة غامضة لمنح الدولة السلطة كي تستهدف أي محاولة تريد التصدي للوضع الراهن. وتم استخدام هذه التشريعات في دول مثل مصر والأردن والإمارات والسعودية وأماكن أخرى. فعبر تصوير أي تحد للوضع الراهن باعتباره تطرفا ونوعا من الراديكالية الدينية، فإن هذه الحكومات قامت بحرف النظر عن سياساتها الديكتاتورية والتي عادة ما تكون حافزا لعدم الاستقرار بالمنطقة وقمع أي شخص تراه تهديدا لحكمها بذريعة مكافحة هذا السلوك المتطرف. وتأطير كهذا يسمح لهذه الحكومة باحتكار النقاش الديني والمتعلق بإصلاح الإسلام والسياسة في الشرق الأوسط.
الأمر الثاني يكمن في محاولة هذه الحكومات تقديم نفسها عبر مفهوم الاعتدال، وتبنيها استراتيجية استخدام الحوار الديني المتسامح. وثبت أن تواصل الحكومات هذه مع منظمات وشخصيات مسيحية ويهودية له فعالية. فعبر تأطير هذه الأنظمة نظرتها من خلال نظرة الحوار الديني المستخدم في الغرب لتعزيز التعايش بين المجتمعات والأديان، حصلت على ثناء الساسة والقادة الدينيين في الولايات المتحدة. وسمح لها بتقديم صورة متسامحة والحصول على علاقات مع فاعلين مؤثرين في الدول المهمة. ولم تحصل على هذا فقط، أي كونها معتدلة ومتسامحة بل وقدمت نفسها باعتبارها الممثل الحقيقي للإسلام العالمي. وعبر بناء هذه الصورة، حاول اللاعبون تقديم أنفسهم كقوى استقرار في الشرق الأوسط رغم السياسات القمعية ضد المواطنين في الداخل إلى جانب السياسة الخارجية القاسية التي أسهمت في عدم استقرار المنطقة.
وجاء مشروع الإسلام المعتدل الذي شكلته الحكومة نتاجا لمرحلة ما بعد 9/11 حيث لجأ الغرب إلى تشكيل مصطلحات عشوائية أطلق عليها الباحث محمود ممداني المسلم “الطيب” والمسلم “الشرير”. وبهذا المعنى فإسلام الأنظمة المستبدة قدم على أنه الإسلام “الطيب” و”المعتدل”، وكان الهدف من وراء ذلك تقديم الحكومات المستبدة على أنها أفضل شريك متوفر لمكافحة المسلمين “الأشرار” أو “المتطرفين”.
ومع تدفق الأموال من الولايات المتحدة لهذه الأنظمة باسم مكافحة الإرهاب، فقد استخدمت الأموال من أجل قمع أي صوت تحدى الوضع الراهن، وتعززت هذه الأشكال في مرحلة ما بعد الربيع العربي عام 2011، حيث تسابقت الدول هذه لتقديم نفسها على أنها حارسة الاستقرار مما ساعدها على صرف الانتباه عن سياساتها التي ساهمت بالاضطرابات والثورات بالمقام الأول.
ويعتقد الكاتب أن مشروع الإسلام المعتدل كان موجها للغرب وتحديدا الولايات المتحدة، التي ظلت الضامن الأهم لهذه الأنظمة، وقامت بتسويق الصورة هذه ضمن مبادرات القوة الناعمة والحصول على شرعية لسياساتها الداخلية والخارجية. ومن الدول التي استخدمت مشروع الإسلام المعتدل بنجاح كانت السعودية حيث قدم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان نفسه كمصلح يريد تحديث البلاد وقام بإجراءات مثل السماح للمرأة بقيادة السيارات والعيش وحيدة والسفر بدون محرم وسمح لأماكن الترفيه وحد من سلطة الشرطة الدينية، وقام بسجن دعاة اعتبرهم متطرفين مقابل رجال الدين التقليديين الذين وصفوه بالمجدد، مع أنه أبعد تاريخ السعودية عن تاريخ الحركة الوهابية. وعلى الصعيد الدولي، استخدم ولي العهد مشروع الإسلام المعتدل وتقديمه للغرب عبر مؤسسات مثل رابطة العالم الإسلامي وأمينها محمد العيسى الذي أقام علاقات مع المنظمات اليهودية والمسيحية الإنجيلية.
واستقبلت السعودية في 2018 وفدا من قادة المسيحية الإنجيلية وزار وفد آخر المملكة في 2019. وفي كانون الثاني/يناير 2020 قاد العيسى وفدا من العلماء المسلمين لزيارة موقع أوشفيتز في بولندا وبرفقة ممثلين عن اللجنة اليهودية الأمريكية. وبعد عام استقبل البابا فرانسيس العيسى في الفاتيكان.
وبنفس المقام قدمت الإمارات نفسها في ظل قيادة محمد بن زايد على أنها منارة للتسامح والاعتدال والحداثة في الشرق الأوسط. وأكدت سفارة الإمارات في واشنطن أن الشمول والحرية الدينية مغروسة في الحمض النووي للإمارات وقبل إنشائها عام 1971. وأشارت إلى أن الإمارات لديها إطار متقدم للشرق الأوسط وطريق لنشر الإسلام المعتدل وحرية المرأة وتدريس الشمولية وتشجيع الإبداع وترحب بالتواصل العالمي. وبعد الربيع العربي أنشأت الإمارات سلسلة من المؤسسات لتعزيز هذه النظرة مثل مجلس الحكماء المسلمين ومنبر نشر السلام في المجتمعات الإسلامية والمجلس الإماراتي للإفتاء. وأعلنت في 2016 عن وزارة للتسامح والتي يترأسها حاليا نهيان مبارك آل نهيان. وفي عام 2019 أعلنت أنه عام التسامح، بشكل عزز صورتها كواحة للاستقرار والازدهار في المنطقة. وفي الخارج دعمت الإمارات عددا من المؤسسات الداعية للتسامح والاعتدال مثل تحالف المثل ويضم رموزا مسلمة ويهودية ومسيحية حول العالم. وكذا مجلس يهود الإمارات الذي يمثل اليهود داخل البلد. وفي عام تم تعيين الحاخام يهودا سارنا كأول حاخام في البلد. وأكثر من هذا وقعت الإمارات على اتفاقيات إبراهيم عام 2020 التي قدمت على أنها من أجل السلام وحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. ووصفتها أبو ظبي بأنها “حافز على التغيير الواسع في الشرق الأوسط” وآلية لنشر “الأمن والازدهار والسلام الإقليمي لسنوات قادمة”.
ورغم كل هذا فلم يتغير شيء على سلوك الإمارات. فهي في طليعة دول ديكتاتورية ناشئة بالمنطقة. ورغم الكثير من مبادرات حوار الأديان التي تم الترويج لها وتسويقها تحت شعار نشر التسامح والسلام، إلا أنها عبدت الطريق للتعاون مع إسرائيل في القضايا الإستراتيجية وتنسيق جهود اللوبي في واشنطن لتحقيق الأهداف المشتركة في الشرق الأوسط والحفاظ على الوضع غير الليبرالي فيه. ولم تعمل اتفاقيات إبراهيم تحديدا على تعزيز السلام بل وصممت لتعزيز النظام من أعلى لأسفل المصمم للحفاظ على مصالح النخبة السياسية. ومبادرات الحوار بين الأديان ليست إشكالية بحد ذاتها، إلا أن المشكلة في مشروع الإسلام المعتدل الذي يقصد منه تبييض صفحة الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة. وتم تصميم هذه المبادرات من أجل خدمة مصالح داخلية وجيوسياسية بدلا من مواجهة تفسير أو ممارسات دينية معينة.
المصدر: “القدس العربي”