ذكرت في مقالة سابقة أن القدماء المهتمين بعلم الحديث قسموا نقد الحديث إلى قسمين نقد السند ونقد المتن والمتن هو نص الحديث , وأن نقد السند نال من الجهد والاهتمام بينما بقي نقد المتن كسيحا لايكاد يقوى على الوقوف وذلك أن نقد المتن بحاجة لاستعمال الأدوات العقلية في حين جرت محاربة التيارات التي تحملها بدءا من تيار أهل الرأي وحتى تيار المعتزلة وبالقضاء على المعتزلة في المشرق ومدرسة ابن رشد في المغرب استسلم المجتمع العربي – الاسلامي للتيارات المحافظة المتشددة فلم يعد بإمكان نقد المتن النهوض بعد ذلك .
وهنا أود أن نقف قليلا لنتساءل : لماذا بقي الحديث دون تدوين خلال ما يقرب من مئتي سنة ؟ بينما كانت الكتابة والتدوين متاحة للقرآن الكريم ؟
الجواب : لأنه تم النهي عن كتابة الحديث وتدوينه وقد أثر ذلك عن الرسول ( ص) وعن أبي بكر وعمر كما سأورد لاحقا .
ولماذا تم النهي عن كتابة الحديث ؟
يقول المفكر مصطفى السباعي : خوفاً من اختلاط الحديث بالقرآن .
لكن ذلك ليس سوى أحد التفسيرات أما التفسير الآخر فهو الخوف من ازدواجية المرجعية الإسلامية وتشتتها بين القرآن والحديث ففي حين أصبح القرآن محميا من التحريف والتبديل فإن الحديث بقي معرضا للوضع والتحريف فخاف الرسول والخلفاء الراشدون من بعده من أخذ المسلمين بالحديث وترك القرآن .
أما العودة لكتابة الحديث فربما انتشرت بسبب الإنقسامات السياسية الكبرى داخل الإسلام ورغبة كل طرف في دعم موقفه من خلال الحديث .
جاء في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي قال: لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه.
فالرسول (ص) لم يكن يريد وضع كتاب مقابل القرآن .
وجاء في سنن الترمذي، عن أبي سعيد الخدري أيضاً، أنه قال: استأذنّا النبي في الكتابة فلم يأذن لنا. وينقل أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي هريرة أن النبي حين سمع منهم ما يكتبونه غضب وقال: “أكتاب غير كتاب الله؟ امحضوا كتاب الله، وأخلصوه”. قال أبو هريرة: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد، ثم أحرقناه بالنار.
ويضعف تفسير السباعي استمرار منع الخلفاء الراشدين تدوين الحديث بعد جمع القرآن على عهد الخليفة عثمان بن عفان وإغلاق ذلك الأمر بحيث لم يعد هناك خوف من اختلاط الحديث بالقرآن .
وهناك أحاديث منقولة عن الرسول ( ص) تفيد بسماحه بكتابة الحديث لكنها لاترقى إلى قوة حديث المنع ومن ذلك : فقد روى البخاري أن النبي خطب في فتح مكة فطلب رجل من النبي أن يكتبوا له الخطبة فقال النبي: أكتبوا لأبي شاه. وأيضاً عن أبي هريرة أن عبد الله بن عمرو أكثر حديثاً منه لأنه كان يكتب. وقال العسقلاني: ويستفاد منه أن النبي أذن في كتابة الحديث عنه، و في المستدرك على الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، أنه سأل النبي أن يكتب ما يسمعه منه في كل أحواله، فأجاب النبي: نعم، إنه لا ينبغي لي أن أقول إلا حقاً.
لكن محمد رشيد رضا دافع عن أن النبي لم يأمر بتدوين السنة، وقال: أقوى هذه الأخبار من حيث صحتها حديث أبي سعيد الخدري عن الرسول الناهي عن الكتابة ولا تعارضه بقية الأخبار .
على أية حال فاستمرار الخلفاء الراشدين في منع تدوين الحديث يحسم مثل ذلك الجدل فلاشك أنهم ساروا على نهج الرسول في هذه المسألة .
فقد نهى الخليفة الأول أبو بكر عن كتابة الحديث.كما روت عائشة، حسبما جاء في “تذكرة الحفاظ” للإمام الذهبي، أن أبا بكر جمع عن النبي خمسمئة حديث، ثم بات ليلته يتقلب، ولما أصبح قال لعائشة: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنا فحرقها فقلت: لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذاك. وما يؤكد هذه الرواية أن أبا بكر من الرواة المقلين عن النبي، رغم كونه أكثر الصحابة ملازمة له.
وأوضح موقف من منع تدوين الحديث والسبب الحقيقي وراء ذلك جاء من الخليفة عمر بن الخطاب :
إذ كان عمر بن الخطاب أشد رفضاً من أبي بكر لرواية الأحاديث وتناقُلها على ألسنة الناس. جاء في تقييد العلم للخطيب أن ابن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستشار فيها أصحاب رسول الله، فأشار عليه عامتهم بذلك، وبعد شهر قال: إذا أناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً. وترك كتابة السنن. لم يكتفِ عمر بما اهتدى إليه من عدم كتابة السنن، بل أحرق الكتب التي جُمعت فيها الأحاديث.
وفي “تقييد العلم” للخطيب أن عمر بن الخطاب، بلغه أنه قد ظهر في أيدي الناس كتب فاستنكرها وكرهها، وطلب من الناس رؤيتها، فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثم قال: أمنية كأمنية أهل الكتاب. ومنع عمر الرواة من تناقل الأحاديث.
وما قاله الخليفة عمر بن الخطاب يعطي البعد الحقيقي الواسع لسبب منع تدوين الحديث وهو الخشية من وضع كتاب آخر إلى جانب كتاب الله يميل إليه الناس ويجعلونه المرجع بدل كتاب الله .
ونأتي هنا إلى حكم المرتد كمثال على وقوع ماخاف منه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
فقد انتشر بين الناس لفترة تاريخية طويلة وحتى اليوم أن حكم المرتد هو القتل بناء على الحديث ” من بدل دينه فاقتلوه “
يقول الشيخ بن باز في فتواه حول ذلك : ” الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذا الباب في قتال الجاني، يعني: المتعدِّي الصَّائل، والمرتد عن دينه، فالجاني يُقاتَل، والمرتد يُقتل، إلا أن يتوب؛ لقول النبي ﷺ: من بدل دينه فاقتلوه .”
هكذا لم يجد الشيخ بن باز ما يدعم به تلك الفتوى الخطيرة للغاية سوى ذلك الحديث .
لست أريد التدقيق في صحة سند ذلك الحديث هنا وقد أشار البعض لوجود كعب …فيه وهو شخص غير ثقة كما يجادل البعض , لكن لندع السند وسنعود إليه لاحقا .
فهل يعقل الأخذ بحديث واحد في أمر على غاية الخطورة كهذا وترك ماجاء صراحة مناقضا له في القرآن ؟
ففي الآية رقم 256 فى سورة البقرة والتى يقول فيها الله سبحانه وتعالى “لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْد مِنَ الْغَى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”.( البقرة 256 )
ولا يمكن التعبير في اللغة العربية عن أمر كهذا بصيغة أكثر شمولا وإطلاقا , فلا هنا هي النافية للجنس يعني لاجنس الإكراه أي لا إكراه بأي طريقة وأي سبب في مسألة العقيدة ولا أدري كيف سمح ابن كثير لنفسه بتقييد الآية بقوله يعني لا إكراه في الدخول للإسلام .
وفي الآية : فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر .( الغاشية 21 )
وفي الآية : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين .( يونس 99 )
وفي الآية : “فمن يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبه ويحبونه” ( المائدة 54 )
ولم يقل فاقتلوهم !
وفي الآية : “إنا أرسلناك بالحق نذيرا وبشيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم .”( البقرة 119 )
فكيف يتم تجاهل كل ذلك مما جاء في القرآن مناقضا بوضوح للحديث المنقول ” من بدل دينه فاقتلوه “
عذارا الخليفة عمر .
لقد وقع ما خفته وحذرت منه .
ونأتي لنفصل قليلا في حديث ” من بدل دينه فاقتلوه ” وهو الدليل الوحيد الذي استند إليه الشيخ ابن باز وكثيرون غيره في الافتاء بقتل المرتد بالرغم من تناقضه مع صريح القرآن كما مر سابقا .
فهو أولا حديث آحاد فرواته جميعا كانوا ينتهون عند ابن عباس .
يقول علماء الأصول: إن أحاديث الآحاد يجب العمل بها في الأحكام الشرعية العملية، باعتبارها فروعًا، ولا يعمل بها في العقائد باعتبارها أصولاً للدين، وهذا ما يفيده ما نقل عن جمهور الصحابة والتابعين، وأقوال علماء الفقه والأصول، ولم يخالف في ذلك سوى بعض فقهاء أهل الظاهر وأحمد في رواية عنه.
فحديث الآحاد أضعف من المتواتر ولا يؤخذ به في العقائد .
وأشهر رواته عكرمة أبو عبد الله القرشي مولاهم , المدني , البربري الأصل , و” مولاهم ” تعني أنه بالأصل من الرقيق وألحق نسبه بالقبيلة التي عاش فيها .
وهو شخصية جدلية قيل فيها الحسن وقيل فيها ماقاله مالك في الخمر , وكونه كذلك يضعف أيضا من السند ويبدو أن البخاري قد أخذ بالجانب الحسن مما قيل فيه .
ولا أريد الغرق في هذا التفصيل لكن يكفي أن أذكر مانقله الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء من أن عكرمة كان خارجيا وماذكره عنه : (وقال علي بن المديني: حُكِي عن يعقوب الحضرمي، عن جدِّه قال: وقف عكرمة على باب مسجد فقال: ما فيه إلاّ كفار، قال: وكان يرى رأي الإباضية)
وجاء في سير أعلام النبلاء أيضا ” وقال حماد بن زيد: قيل لأيوب: أكنتم تتهمون عكرمة؟ قال: أما أنا فلم أكن أتهمه” .ومعنى ذلك أنه متهم عند البعض .
أوردت ماقيل في سند الحديث , مع أنه يكفي تناقضه مع صريح القرآن لوضعه جانبا بغض النظر عن سنده .