لم يكن في ذهن الرئيس الأميركي جو بايدن، وهو يفتتح “قمّته” الثانية للديموقراطية، أن إدارته قد تكون الأولى في تاريخ الحلف الاستراتيجي، الأميركي – الإسرائيلي التي تضطر لمواجهة “انحراف” إسرائيل عن الديموقراطية، ما يهدّد أسس العلاقة العضوية والوثيقة بينهما. لكن، ما دام ذلك أصبح واقعاً، ربما حان الوقت لاستحقاقَين: أولهما الجواب عن السؤال: هل إسرائيل “ديموقراطية” حقاً، وكيف تكون كذلك وهي دولة احتلال؟ وثانيهما اعتراف واشنطن بالحقيقة: إسرائيل دولة أو أداة حليفة، لها وظيفة أميركية محدّدة بأن تكون ساهرة دائماً على عدم الاستقرار في العالم العربي، وبهذه الصفة ليس مهماً أن الحليف ديموقراطياً أو لا. لكن لا بأس بالحفاظ على شعار “الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، لزوم الدعاية السياسية، وقد استخدمه بنيامين نتنياهو في خطابه أمام القمّة ليستخلص أن الحليفين سيتوصّلان في نهاية المطاف إلى حلّ لخلافاتهما. وهو الاحتمال الأكثر ترجيحاً، فلا غنى لأيٍّ من الطرفين عن الآخر.
لا يبدو هذا الحلّ وشيكاً أو سهلاً، وفي انتظاره أعطت واشنطن إشارات عدة إلى جدية الخلافات، متمثّلة بالمواقف العلنية لبايدن، فضلاً عمّا نُقل عن رسائله السرّية التي حملها وزيرا الخارجية والدفاع، وكذلك بالاستدعاء الاستثنائي للسفير الإسرائيلي إلى الخارجية بعدما ألغى “الكنيست” بنوداً قانونية لإجازة عودة المستوطنين إلى بؤر كانت الحكومة قد أغلقتها عام 2005، إذ اعتُبرت تلك الخطوة من الإجراءات الأحادية الجانب التي طلب اجتماع شرم الشيخ الخماسي الإحجام عنها لتهدئة التوتر في الضفة الغربية.
في المقابل، كانت النبرة الإسرائيلية غير اعتيادية، سواء بتذكير أميركا بأن إسرائيل “دولة مستقلّة ذات سيادة” (نتنياهو) أو أنها “ليست نجمة أخرى على العلم الأميركي” (إيتمار بن غفير)، وصولاً إلى قول أحد نواب ليكود إن إسرائيل “تستطيع الدفاع عن نفسها من دون مساعدة الولايات المتحدة”. وفي ذلك إشارات إلى أن إسرائيل “تتغيّر” بوجود متطرّفين قوميين متديّنين منتخبين في برلمانها، وباستعداد هؤلاء للتمرّد على واشنطن وعدم التردّد في العبث بالعلاقة معها، إلى حدّ اتهامها بتحريض الاحتجاجات ضد “حكومتهم”.
لكن الخلاف الحقيقي بين الحليفَين لا يرتبط بالاحتلال الإسرائيلي وحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ولا بممارسات سلطة الاحتلال ضد حقوق الإنسان للفلسطينيين، وهي من متطلّبات أي ديموقراطية تريد واشنطن الترويج لها، بل بـ”التغيير” الذي يطرأ على النظام جرّاء إخضاع السلطة القضائية الإسرائيلية لأجندة الائتلاف الذي يقوده نتنياهو في العلن، ويديره ثنائي التطرّف إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش في الواقع. فهذا ما تأكّد خلال مفاوضات الائتلاف لتأجيل التصويت على تعديلات “الإصلاح القضائي”، إذ تبيّن أن “ليكود” والحزبَين الحليفين متفقون على أجندة قوامها تجنيب نتنياهو الملاحقة القضائية والمحاكمة المحتملة بتهم الفساد وإساءة استخدام السلطة من جهة، ومن جهة أخرى تمكين الأحزاب المتطرفة من إقامة منظومتها التشريعية لاضطهاد الفلسطينيين وتوسيع الاستيطان إلى حد ضمّ معظم الضفة الغربية وفرض مفهومها الديني للصهيونية على الداخل الإسرائيلي.
بناءً على ذلك، صارت لعبة الابتزاز مكشوفة: نتنياهو وحلفاؤه يربط بينهما هدف واحد: تطويع القضاء، هو للبقاء في منصبه وتحصينه من الملاحقة، وهم لتحقيق أهدافهم الأيديولوجية. تحت ضغط الشارع والمعارضة و”النصائح” الأميركية، كان المطلوب من زعيم ليكود أن يتخلى عن خطة “إصلاح القضاء” برمّتها، ولو فعل لكان جازف بمصير حكومته ومستقبله السياسي. لذلك اختار تأجيل إقرار تلك الخطّة كحلٍّ وسط وكسباً للوقت، أما الحلفاء، فكانوا يفضّلون المضي بها والذهاب بالتحدي إلى أقصاه، وعندما هددوا بالانسحاب من الحكومة كانوا يراوغون فقط للحصول على تنازلات، لأن إسقاط الحكومة كان سيقود إلى انتخابات أخرى مبكرة لن يتمكّنوا من الفوز فيها بالعدد نفسه من المقاعد. وحينما اتُّفق على التأجيل عُرف فوراً أن نتنياهو رضخ لمطلب بن غفير بتمويل إنشاء ميليشيا “الحرس الوطني” التي ستُخصّص لقمع الفلسطينيين. وهذه مسألة خلافية أخرى مع المستوى الأمني، لأن بن غفير سيدير تلك الميليشيا بعقلية المستوطنين المسعورة.
لكن أهم ما في هذه الوقائع أنها كشفت تراكم الخلافات بين إدارة بايدن وحكومة اليمين المتطرّف، وقد زادها تأييد سموتريتش “محو” بلدة حوارة ثم إنكاره وجود الشعب الفلسطيني وعرضه خريطة موسّعة لحدود إسرائيل. نعتت واشنطن مواقف زعيم “الصهيونية الدينية” بكل الأوصاف المقذعة، لكنها، مثلها مثل العواصم الأوروبية، لم تعلن أي سياسة لمواجهة هذه المواقف القديمة – المتجدّدة من جانب مسؤول في حكومة إسرائيل. إذ يجب أن يلقى سموتريتش المعاملة نفسها التي يتعرض لها أي أشخاص أو جهات يُتهمون في الغرب بمعاداة السامية وبكثير من المبالغة، فهؤلاء يلامون ويعاقبون إذا أنكروا وقائع الهولوكوست أو انخرطوا في تبرير النازية والإبادة التي مارستها ضد اليهود، أما من هم أمثال سموتريتش، فإنهم ينكرون وجود شعب ينهبون أرضه ويتسلّطون على ماضيه وحاضره ومستقبله، أي أنهم يعتنقون فكر الإبادة ويبدون كل تصميم على تطبيقه.
لا شك في أن التغاضي الأميركي الطويل عن الاحتلال وسرقة الأراضي وسياسة القتل اليومي للفلسطينيين وانتهاك القرارات الدولية، أدى الى تغوّل ما تُسمّى “الديموقراطية الإسرائيلية” واعتيادها المزمن على الإفلات من المحاسبة والعقاب، بحيث أصبحت أحزابها المتطرفة أقرب إلى تصنيف التنظيمات الإرهابية التي عرفتها المنطقة متنكرة بالدين لتسويغ وحشيتها وإجرامها. كانت واشنطن ولا تزال تفرض عقوبات على العديد من الدول وتطالبها بـ”تغيير سلوكها” للإبقاء على أنظمتها، لكنها بلغت الآن اللحظة التي ترى فيها ربيبتها إسرائيل وقد غدت بلا ضوابط، وعليها بالتالي أن تغيّر سلوكها، ومع ذلك تبقى واشنطن بعيدة من التفكير في معاملتها بالعقوبات على رغم أنها تستحقّها.
لا تقتصر خلافات الحليفَين على مسائل “داخلية” في إسرائيل. فهذه مجرد واجهة لخلافات أكثر عمقاً تتمثّل هذه المرّة بصعوبة اتفاقهما على “مسائل استراتيجية” يُفترض ألّا تقابلها إسرائيل بسلبية، تحديداً لأنها ليست “مستقلّة” فعلاً عن الولايات المتحدة، خصوصاً في المنعطفات التاريخية. فحين يكون التحالف الأميركي – الغربي منخرطاً في حرب أوكرانيا وفي صراع استراتيجي مرير مع روسيا (والصين)، لا تملك إسرائيل إمكان الحياد. وحين تكون واشنطن في مواجهة مفتوحة مع بكين، تجارية وعسكرية وسياسية، لا تستطيع إسرائيل أن تطالب باستثنائها لتحافظ على مصالحها مع الصين. كذلك، حين تسعى إسرائيل إلى خيار عسكري ضد إيران ولا تجد استجابة أميركية، فليس لديها خيار العصيان على تقديرات الحليف الأكبر.
المصدر: النهار العربي