كان من فرط انتظار مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” أنه أساء إليه، وقد كان من المعروف أن المسلسل، يتناول الفترة التي ما زلنا نعيشها منذ أكثر من عقد، يوما بيوم، لا أحد غائب عنها، الجميع يعانون منها. كما أن الجنرال لا تُخفى هويته، فكاتب السيناريو وطاقم الممثلين والعاملين في المسلسل من الذين التزموا بالثورة، وخرجوا من البلد وخسروا أعمالهم.
كانت النيات المتفائلة في صعود عمل درامي أنه سيكون على مستوى التوقعات منه. بيد أن التوقعات لم تكن عالية فقط، وإنما متعددة، ربما بتعدد أمزجة المشاهدين، فكل منهم لديه تصور عن هذه الفترة والأشخاص، هل يستطيع مسلسل ملاقاة جميع هذه التوقعات، وإيفاء تصوراتهم حولها، والتي من الطبيعي ألا تكون موحدة؟
ولئلا نتكلم على غير هدى، فلنعرج على مبادئ العمل الفني، فنحن لسنا بصدد الدفاع عن المسلسل، ولا النيل منه، ولا على الأقل خفض منسوب التوقعات التي تركز أغلبها على أنه ليس طبق الأصل عن الواقع، فلا الجنرال هو الرئيس، ولا قصة الخلاف بين الشقيقين كما يعرفونها وغيرها، وطالت الانتقادات التمثيل والإضاءة والإخراج… إلخ. بينما لم يتجاوز المسلسل حلقاته الأولى.
تعقيبا على حالة النقد هذه، نقول إذا عزمنا على انتقاد أي عمل روائي أو سينمائي أو تلفزيوني، بوسعنا انتقاده على كل شيء، ونفقده أية قيمة، وتسخيفه أيضا، ولو كان عملاً عبقرياً، وليس في هذا جهدا ولا معجزة، ببساطة إنكار ما بذل فيه، وهو لا يكلفنا شيئا، مجرد كثير من الكلام. وبوسعنا أيضا مديحه حتى على سقطاته وأخطائه. وهي من الأمور الشائعة في حياتنا الثقافية. حتى أصبح من الممكن مديح عمل أو انتقاده، حتى لو لم نشاهده أو نقرأه. ومما هو شائع أيضا، العدوى بالسماع بقصد تشويه أي جهد.
الملاحظ أنه على كثرة المنتقدين أن ملاحظاتهم كانت بناء على ثلاث حلقات أو أكثر، (فمثلا، على الحلقة الأولى، أو المشهد الافتتاحي) وكانت متناقضة. كما انتُقد على أنه وثائقي، وعلى أنه غير وثائقي، وكان بعضها الآخر على هذا المنوال، أو بحسب تصورات مسبقة. أما ما كان العمل يرمي إليه، فلم يجر التطرق إليه ولا تخمينه إلا نادرا، إذ كان مبكراً. ولنتخيل أن شخصا وقف يلقي خطاباً، لم يعجب الحاضرين فقاطعوه من دون أن يكمل كلامه وانهالوا عليه بالانتقادات، مع أن الوقت المخصص له ساعة من الزمن (أي ما يعادل ثلاثين حلقة) قاطعوه في الدقائق الست الأولى (أي بعد ثلاث حلقات). ألم يكن من الأجدى الانتظار قبل إطلاق أحكامهم التي بدت نهائية، غير قابلة للرجوع عنها، إذ لن يكون عمل المنتقدين بعدها سوى التأكيد على أنهم كانوا محقين.
الواضح حول مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” أن هناك ما يمكن أن ينطلق منه المشاهد، فهو يرتبط في أذهاننا بقصة حاضرة، هي قصتنا مع الدكتاتورية، والنظام، والتوريث، والعائلة التي استولت على الدولة، والأجهزة الأمنية، والفساد الضارب في أرجاء البلاد. ثم هذه الحرب ومآسيها، إضافة إلى ثورة هُزمت بعد تضحيات كثيرة. أي إن المشاهدة لا تنطلق من فراغ، لكن لنأخذ بالاعتبار أنه لا يمكن لرواية ولا مسلسل أو فيلم احتواء هذا الواقع الهائل المتراكم منذ أكثر من نصف قرن، وما زال مستمرا. ما يعرفه وما عاناه المتفرج يفوق ما سوف يراه.
هذه المشكلة تواجه صانعي المسلسل في محاولة هضم واقع مرير تصعب الإحاطة به في مسلسل تلفزيوني، لذلك يأخذون مقطعا منه يبدو لهم الأكثر كشفا ويبنون عليه تصوراتهم. فهو ليس فيلما وثائقيا يتطابق مع الواقع بتفاصيله، لكنه في الوقت نفسه يمثل الواقع، ولا يشذ عنه، سواء بالغ أو لم يبالغ، وذلك بتوخي التعبير عنه، فهو يقرأ الأحداث، ويحاول فهمها لتساعده على الدخول إلى تلافيفها، فالواقع ليس إلا خريطة طريق نحو ما تحت السطح، إنه يبحث في العمق، ليس كي يعكسه بشكل مباشر، بل كي ندركه ونحس به.
يهدف الفن إلى التعبير عن الحياة، لا على أنه نسخة عنها، فالشخصيات قد تكون أشمل من الشخصيات الواقعية، وتحمل دلالات تفوق شخصيات من لحم ودم، وقد تختزل ملامحها، أو يضاف إليها، وليس من المهم أن تمثل فلاناً أو غيره من قادة الأجهزة الأمنية، وإنما رجل المخابرات، أحيانا لا فرق بين هذا وذاك، فالمنصب هو الذي يصنع الصلاحيات المطلقة التي تصنع الدكتاتور ومثله المخابراتي العتيد.
كتجربة شخصية، بعد ما يزيد على عام من اندلاع الثورة كتبت مقالا، قلت فيه لقد بدأ السوريون يتعلمون الكلام، وذلك من ناحية أنهم بدؤوا يكتبون بحرية من دون مراعاة رقابة ولا نظام ولا مخابرات، ولم يعد ثمة مبرر للمناورة والمداورة والترميز والإيماءات، واكتشفنا أن الأمر ليس بالسهل، لا بد من فترة تأهيل، ثم اكتشفنا بعدها أن المخاوف لم تنتزع من داخل السوريين، غالبا هناك حسابات ولو كانت باللاوعي، ما زالت حتى الآن، حتى بعد انقضاء اثني عشر عاما على الثورة، تصعب الكتابة بحرية أحيانا، فنحن لم نعتد عليها، لقد عاشت أجيال حياتها في هذا النظام، وقد تغادرها من دون أن تعرف غيره.
في صدد المحاولة لامتلاك الحرية، لا بأس من الإشارة إلى تلفزيون سوريا، بوسعنا القول لأول مرة منذ نصف قرن، امتلك السوريون صوتا يعبر عنهم، وباتوا مسؤولين عما يقولونه ويفعلونه… هذا صوتنا يضعنا أمام مسؤولياتنا، ومثله الدراما، هذا المسلسل من التجارب الأولى التي امتلك السوريون صوتهم الخاص، بلا رقيب يتابع عملهم منذ السيناريو على الورق، ثم على الأرض، ومن ثم على الشاشة. ولا يعني إزجاء المديح لهذه التجربة الرائدة كيفما اتفق، لكن ليس انتقادها عشوائيا وكيفما اتفق.
لا أريد المقارنة بين هذا العمل، والمسلسلات السورية الأخرى التي تظفر بالمديح، لمجرد أنها تعمل على موضوعات مطروقة، بات يرتاح إليها المشاهد، فهي مطمئنة تغصّ بالبطولات من دون التنبه إلى أنها مفارقة لحياتنا التي نعيشها، لا تقدم لنا شيئا، سوى التسلية وربما المتعة، وتحاول أن تشعرنا بأننا بخير مع أننا لسنا بخير، مستنقعين في أوضاعنا الرثة، أليس من الإنصاف القول بأنها منفصلة تماما عن حياتنا ومعاناتنا. وإذا اقتربت من الواقع المؤلم فإلى التهريج على أنه كوميديا، وإذا ذهبت إلى التاريخ فلتلفق شيئا يتناغم مع المؤامرة الكونية، وإذا افتعلت الجرأة والشجاعة، فليس غير العصابات يعبر عنها، ما أهَّل أنماطا من الشبيحة أخذوا يمارسون أدوار روبن هود. أما نصيب المجتمع من الدراما فبالتشهير به، بالعهر والزنا والخيانة والمخدرات والجرائم، باعتبارها أحداثا لافتة، أما الفساد، فمجهول وبلا سبب، مادة للتشويق فقط. فحصد الممثلون ألقابا رسّخت الأوحد والأعظم والأول.. مع أنهم ليسوا في أحسن أحوالهم إلا ممثلين مجتهدين.
إذا كنا ما نزال نتعلم الكلام، فالمشوار لا ينبغي أن يكون طويلا لنتعلم النقد، وكي نخفف وطأة هذه السمة الشائعة لدينا، ونتقبلها على وجهها الصحيح، فالاعتراف بأننا أصبحنا نختلف على كل شيء، بعدما تدربنا في الزمان الدكتاتوري على الصمت، وأجبرنا عليه. وفي زمان الحريات انطلقنا بالكلام، ويخشى أننا نسينا فضيلة الإصغاء. أما ما يجب تفهمه فهو أن نحسن التعلم، وندرك أن ليس هناك ما هو أثمن من الحرية، وكم كلفتنا من ضحايا وتهجير، وإن التمتع بها، لا يعني إهدارها.. وهو ما يجعل النقد، كما هي حرية الرأي والتعبير حقا لا نزاعَ عليه.
المصدر: تلفزيون سوريا