سبق أن عاينت مفاجأة حصلت في سورية، بعد سنواتٍ من حصول حراكها السياسي تحت شعار الحرية والكرامة. كتبت عنها في “العربي الجديد” يوم 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، وكان الصراع إذ ذاك محتدماً بين النظام والمعارضة. كانت المفاجأة تتمثَّل في الخطاب الذي تصوَّرت أن الرئيس بشّار الأسد أعلن فيه الترتيبات التي ستسمح بنقل السلطة السياسية في سورية إلى هيئة وطنية تُكَلَّف بتسيير مرحلة انتقالية تُعِيدُ الاستقرار والأمن إلى سورية، وتخلّص السوريين من نظام سياسي لم يتمكّن من القطع مع الاستبداد والفساد، نظام لا يتردّد ولا يجد أي حرج في التّغني المتواصل بالممانعة، رغم كل الخراب الذي يشمل الحواضر والأرياف السورية.
لم تكن المفاجأة أكثر من حُلم، حصل في إغفاءةٍ نقلتني من جحيم أوضاع الشعب السوري الفعلية، وأوضاع معارضته الممزّقة، حيث تتواصل عمليات ترتيب الأوضاع في سورية، وِفْق أَجَندات وبرامج القِوَى الإقليمية والدولية. الأمر الذي تحولت فيه سورية اليوم إلى مناطق نفوذ إقليمية ودولية، في انتظار الفرصة المواتية لتقسيمها. وتحوَّلت المسألة من قضيةٍ، يُفْتَرَض أن توصل إلى خياراتٍ معيّنة بين سلطةٍ مستبدَّة ومعارضة إلى قضية عرفت وتعرف آلاف الضحايا والمُهَجَّرِين والهاربين والمختطفين، من دون أن نتحدّث عن أوضاع الذين يعيشون وسط التراب والخراب.
حصلت مفاجأة الرئيس الأسد الثانية في قمّة جَدَّة يوم 19 مايو/ أيار الماضي، لكنها لم تكن بمواصفات الحلم المنقذ التي وُصفت في الأولى، بل كانت مفاجأةً بملامح أخرى، كانت صوتاً يقترح ويوصي ولا يتردّد في الابتسام ونقل صور الغبطة التي تملأ العيون والحركات … تَتمثَّل مفاجأة القمّة العربية رقم 32، في حضور بشار الأسد إلى كراسي جامعة الدول العربية، بعد انقطاع عنها دام أزيد من 12 سنة. كما تَتمثَّل في الكلمة القصيرة التي قدّم بكثير من الرِّقة والأناقة. وتمثلت أيضا في الكلمة الأخرى التي كانت تتخلّل الأولى وتتقاطع معها، وكانت مليئة بالشجن وقد صنعت المفاجأة.
جاءت المفاجأة الجديدة في صيغة مُركَّبة، واستخدمت في تركيبها بعض التقنيات المستخدمة اليوم في الفضاءات الافتراضية .. وقبل تقديم عناصر المفاجأة، نشير أولا إلى أن جامعة الدول العربية قرّرت تَجميدَ عضوية النظام السوري في الجامعة وأنشطتها سنة 2011، بسبب اعتماده الخيار العسكري في مواجهة الاحتجاجات الشعبية. والسؤال هنا، لماذا تعود اليوم لاستقباله والترحيب بقدومه، في قمّة جدّة التي تحمل شعار “التوافق والاستيعاب”؟ ماذا تَغَيَّر في الوضع السوري والإقليمي والدولي، في موضوع الصراع السياسي المتواصل داخل سورية؟
لا نجد في البيان الختامي للقمّة ما يوضح ما حصل، والعبارة الواردة في البيان الختامي للقمّة في هذا الشأن، لا تفكر في أوضاع الشعب السوري، ولا في القرارات الدولية المتعلقة بالملفّ السوري والمصالحة السياسية. حضر الرئيس وتَمّ السكوت على أوضاع الشعب العربي السوري، أوضاع المُهَجَّرين وأوضاع النظام والمعارضة، وصُوَر الحضورين، الروسي والإيراني، وكذا أنماط الحضور الأميركي والتركي في قلب الأراضي السورية … وطرق الهيمنة التي يواصل النظام استخدامها من أجل مزيد من الخراب. لكن لماذا تَمّ رفع حالة التجميد عن سورية، وتَمّ استدعاء الرئيس لحضور القمّة العربية في جدّة؟
ترتبط هذه الأسئلة مباشرة بالمفاجأة غير المتوقعة، فإذا كانت المفاجأة الأولى مجرّد حلم جميل ومريح، حُلم جرى في إغفاءة مُثقلة بِغُمَّة الشعب السوري وأخطاء معارضته، فإن المفاجأة الثانية حصلت منذ أيام على أرض السعودية، داخل القاعة الملوّنة. ورغم صعوبة إدراجها في عِداد الممكن التاريخي، فإننا لا نتردّد في النظر إليها شكلا من أشكال الهروب المُسْتَحَب والمُسَلِّي، الهروب من وقائع غريبة تجري أمامنا، ولا نملك القدرة على الاقتراب منها، ومن كل ما ترسمه من معطيات في الحاضر العربي..
تتمثَّل قوة المفاجأة في اللعبة التقنية التي حولت الرئيس داخل المؤتمر إلى اثنين، يحضر في الأول بالصورة التي شُوهِد بها في قنوات الإعلام الرسمية، رغم أنه لم يكن، في تصوُّرِنا، أكثر من وجه أول في مشهد تَمّ تَركِيبه بهدف إصابة أهداف مرسومة سلفاً … أما الثاني، فقد تحدّث فيه الرئيس بلغةٍ تختلف عن اللغة التي يتحدّث بها في العادة، في مؤتمرات القمّة التي حضرها منذ خلافته والده في 17 يوليو/ تموز سنة 2000. كان الثاني يتحدّث بلغة الحزن والأسى على أوضاع الشعب السوري، وعلى الحروب التي نشبت داخل سورية، والانقسامات الإثنية والطائفية التي تتهددها. وكان يُدرك جيداً ثِقل الحضور الروسي والإيراني والأميركي والتركي في بلاده. لم يكن يقرأ في ورقة أمامه، كان يحاول التفكير في مآلات الثورة السورية، وكانت صورتُه مليئة بالشجن، وقد انتبه المشاركون في القمّة إلى اللغة غير المتوقعة التي كان ينطق بها، وبدأ بعضهم يشكّ في سلامة المشهد والمناسبة.
أعلن الرئيس في صورته الثانية، الناطقة بلسان المفاجأة، أنه يحضُر القمة ليُخبر القادة العرب، الذين رحبوا بعودته، أنه تعلم كثيراً من سنوات حكمه وحكم والده، وقد تعدّت اليوم خمسة عقود، تحدّث الرئيس بكثير من الشجاعة عن قراره التنحي اليوم وليس غداً، عن مقاليد الحكم في سورية. ولم يتردّد في القول إنه أول حاكم عربي يُشهِد الحاضرين في مؤتمر للقمّة العربية عن تنازله عن السلطة لتَدارك ما حصل ويحصل اليوم داخل المجتمع السوري. وقد أنشأ لهذا هيئة وطنية أَوْكَلَ إليها مهمة الإشراف على تهيئة انتخابات جديدة، تشارك فيها مختلف القِوَى الشعبية، من أجل عهد جديد في سورية.
استمع الحاضرون إلى كلمته الثانية وكانت تتقاطع مع الأولى، وأعلنت القمّة ما جاء في كلمته الأولى التي تشبه كلامه المعتاد في باقي مؤتمرات القمّة، التي شارك فيها منذ تقلّده زمام الأمور في سورية. أدركتُ وأنا أستمع إلى كلمته في المؤتمر أن الرئيس كان يتحدّث لغتين، وأن الحاضرين في المؤتمر انقسموا إلى قسمين، قسم استمع إلى كلامه المعتاد، وقسم عَايَنَ مثلي المفاجأة. أما الرئيس فقد غادر قاعة المؤتمر مُسرعا بعد انتهائه من إلقاء كلمته.
المصدر: العربي الجديد