مع تهاطل صواريخ كروز وتوماهوك الأميركية على بغداد فجر 20 آذار/مارس 2003 عاودتني مشاعر الألم والقلق، التي انتابتني أثناء زيارتي ملجأ العامرية في سنة 2000، حيث كانت قنبلة ” ذكية ” قد اخترقت فجر 13 شباط/فبراير 1991 سقف الملجأ وقُتل على الفور 400 طفل وامرأة وعجوز اعتقدوا أنهم بدخوله قد أمّنوا على حياتهم من الغارات الكثيفة التي كانت تستهدف بغداد آنذاك. كما داهمتني تلك الأيام التي تركت فيها عراقَين: عراق الناس الطيبين الخائفين على مستقبلهم، وعراق النظام الذي لم يكن يملُّ الخطابات والشعارات البعيدة كل البعد عن واقع التحوّلات العميقة في السياسات الإقليمية والدولية.
وفي الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق، الذي أدى إلى تدمير أسس الدولة وبنيتها التحتية، فإذا كان هذا الغزو قد نجح في إسقاط وتغيير النظام السياسي، بيد أنّ الطائفية السياسية التي جاء بها سعت إلى إسقاط العراق كبلد بكامله.
إنّ ما حصل في العراق ليس مجرد سقوط نظام ديكتاتوري، إنه انقلاب على الصعيد الإقليمي لا يقلُّ في خطورته عن زرع دولة إسرائيل في أرض فلسطين، بل انطوى على إخلال بتركيبة المنطقة تمهيداً لإعادة النظر فيها، وهو بمستوى أهمية ما جرى في مرحلة ما بعد سقوط الدولة العثمانية.
إنّ العراق بهذا المعنى أضحى ساحة الصراع الرئيسي والاستراتيجي والحاسم بين الآليتين الدافعتين لوقائع السياسة والتناقض في العالم العربي: آلية الانقسام والتقسيم وتفكيك الكيانات والأوطان، وآلية الدفاع عما تبقى من محصلة تلك الكيانات والدول من وحدات وعلامات تماسك على ما قد يكون فيها من هشاشة.
لا يحتاج المرء إلى أكثر من نظرة سريعة ليكتشف أنّ العراق الجديد أضحى فيديرالية طوائف ومذاهب وأعراق وعشائر. فعندما تتحرك قوى سياسية بدوافع التقسيم المذهبي والطائفي، وتقويض انتماء العراق العربي، بينما يطالب عراقيون آخرون بالحفاظ على هوية العراق العربية، ويطالبون بالحفاظ على وحدة العراق كوطن ودولة، وبأن يستمر العراق في ممارسة دوره الإقليمي التقليدي، فهناك حالة انقسام عميقة تحتاج إلى تعاطٍ عقلاني معها.
وهنا تبدو مشكلة ميليشيات الحشد الشعبي مستعصية في ظل غياب الدولة ومرجعيتها وهيبتها وقوتها العسكرية، وفي ظل سياسات التخبّط والتشظي والتفتت، وكذلك في ظل تصاعد الاحتقان الطائفي والمذهبي.
وفي الواقع لم تكن الحرب على العراق واحتلاله، ولم يكن إخفاق العالم العربي في التنمية والتقدم بداية لأزماتنا ولا نهاية لمصائبنا إنما هو مرآة مكبرة لتقاعسنا عن إصلاح أنفسنا، ولعجزنا عن تشكيل أفضل لمجتمعاتنا، ولتكاسلنا في عملية الذود عن موقعنا في العالم. إنها مرآة لواقعنا، وصورة عن اللامبالاة بضرورة التغيير، وعن غياب التضامن العربي الفعلي والمجدي، وعن التلكؤ في دخول العصر.
وهكذا، يبدو أنّ البدائل والخيارات المطروحة على العالم العربي، منذ الغزو الأميركي للعراق في سنة 2003، تتمثل في ثلاثة بدائل مستقبلية: أولها، استمرار حالة التشتت والفوضى والبعثرة العربية، بما ينطوي عليه من هيمنة إسرائيلية على المشرق العربي. وثانيهما، إعادة تنظيم المنطقة في شكل شراكات إقليمية ضمن إطار الشرق الأوسط الموسّع. وثالثها، العودة إلى النظام الإقليمي العربي بعد إنعاشه وتطويره وتغيير سلوكيات أطرافه وتحديثه.
وفي هذا السياق، من مصلحة العرب الاستثمار في العراق، ليس فقط لصد الهيمنة الإيرانية عليه واستعادته إلى البيت العربي، وإنما أيضاً لاستعادة ثقة شعبه بالعرب شعوباً وحكومات. كما هو الحال مع التلكؤ العربي إزاء الكارثة في سورية، التي تخضع لقوى الأمر الواقع الروسي والإيراني والأميركي والتركي.
إنّ القوى والأحزاب الطائفية، التي لها امتدادات وولاءات إيرانية، لن تستسلم بسهولة لأي تطور قد يهدد مكتسباتها ومصالحها في الهيمنة، بعد أن وفّر لها الاحتلال والمرجعيات الدينية الأطر التشريعية في الانتخابات والدستور. وقد تلجأ تلك القوى للدفاع عن مصالحها إلى تصعيد استخدام القوة ضد خصومها تحت شعارات وتبريرات مختلفة.
وفي الواقع، قبل الغزو الأميركي كان هناك صدّامٌ واحدٌ مستبدٌّ، اليوم هناك أكثر من صدّامٍ، كلهم ينظرون إلى البلاد وأهلها على أنها غنيمة حرب لا مفرَّ من استغلالها والتحكّم فيها والاستفادة منها. هذا ما يؤمن به الكثير من العراقيين الذين احتفلوا بسقوط نظام عزلهم عن العالم وأدخلهم في حروب وأزمات ليجدوا أنفسهم بعده مسجونين في دوامة من العنف والفوضى.
وإذا كان من المؤكد أنه ليس هناك سيادة وطنية يمكنها أن تضفي شرعية على الاستبداد، ففي المقابل ما من حرب أميركية من أجل الديمقراطية. بل لعلّنا ندقُّ أبواب المستقبل وننهض لإطلاق خطاب عربي عصري، عناوينه في توجهاته ومضامينه وفي تجديدنا له، يحتمل دائماً التأويل والتعديل لصالح شعوبنا العربية. إنها إعادة قراءة واجبة، ليس فقط في تجديد هذا الخطاب وإنما في تجديد العقل العربي المدعو إلى خوض مغامرة المستقبل بأدوات جديدة وأفق مفتوح وحوار دائم على المصالح والأهداف والممكن والمستحيل.
(*) – نُشرت في صحيفة ” الصباح ” التونسية – 21 آذار/مارس 2023.