تحلّ الذكرى الـ12 لانطلاقة “الثورة السورية”، وما تزال معاناة الشعب السوري متواصلة، في الداخل السوري، وفي المنافي، وفي السجون والمعتقلات، ولم تزل قضية هذا الشعب الحرّ الأبيّ خارج الإهتمامات العربية والعالمية الجدّية، ولا سيّما اليوم، حيث الزحف العربي والغربي من أجل التطبيع مع “نظام آل الأسد”، وتعويمه، من دون أيّ إلتفاتة عربية/ أممية حقيقية الى الشعب السوري، الذي دفع الغالي والثمين من أجل حريته وكرامته، الأمر الذي يستدعي من كلّ إنسان عربي حرّ، أن يسلّط الضوء على بعض المحطات التاريخية لـ”نظام آل الأسد”، وسلوكه القمعي، وأسلوبه في تغييب المعارضين وإخفائهم، إمّا في معتقلاته السريّة أو العلنية، لا فرق بينها، أو في ترحيلهم الى ما وراء الشمس، منذ البدايات ولغاية تاريخه.
تأسيس “نظام آل الأسد”..
أكثر ما كان يتوقعه المتابعون للشؤون السياسية في سوريا، منذ عقد السبعينات في القرن الماضي، الذي تسلّم فيه حافظ الأسد السلطة، بعد تآمره على رفيق دربه ومعلمه الضابط السوري صلاح جديد، هو حصول انقلاب عسكري يطيح السلطة الحاكمة، يليه إنقلاب آخر يطيح مَن أطاحوا بالسلطة العسكرية التي سبقت، وهكذا دواليك، كما درجت “العادة” في سوريا، منذ الاستقلال في العقد الخامس من القرن الماضي لغاية العام 1970، حيث قاد حافظ الأسد آخر إنقلاب عسكري يحصل في سوريا، ضدّ رفاق دربه، وتخلّص منهم الواحد تلو الآخر، وعيّن أحمد الحسن الخطيب رئيسًا مؤقتًا للجمهورية (لا أحد يذكر هذه الواقعة)، قبل مسارعته الى إجراء إستفتاء شعبي شكلي، في 22 آذار/ مارس 1971 على تسميته رئيسًا للبلاد، تحت عنوان: قيادته لـ”الحركة التصحيحية”، والذي زعمت مصادره أن نسبة المشاركة الشعبية فيه بلغت 95%، وأنه حقق فوزًا ساحقًا على لا أحد، (لم يكن هناك أيّ مرشح ضدّه) تجاوز الـ99%، وأصبح الأسد رئيسًا لسوريا لمدة سبع سنوات، تلتها سلسلة “استفتاءات” مشابهة في أعوام 1978 و1985 و1992 و1999، الى أن توفاه الله في 10 حزيران 2000. حيث سارعت “الهيئات التشريعية” السورية (القيادة القومية والقيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي”/ فرع الأسد) و(مجلس الشعب) الى تذليل العقبات الدستورية والقانونية أمام نجله بشار، ليرثه في منصبه، والذي ما يزال على رأس النظام لغاية تاريخه، وظنّ الكثيرون يوم انتخابه، أن سوريا أمام مرحلة تاريخية جديدة مع “الطبيب” الشاب بشار، الذي وعد بالعمل على نقل سوريا الى مصاف الدول الأولى في العالم، لكنه لم يفِ بوعوده، وأصرّ على دخول التاريخ كأحد أبرز مجرمي الحرب في العالم الحديث.
“الثورة” اليتيمة..
نعم.. انتظر الكثيرون الإنقلابات، ولم يتوقّع أحد من فطاحل التحليل السياسي، أن الشعب السوري على موعد مع “ثورته الشعبية” اليتيمة، التي انطلقت في 15 آذار 2011، بالتزامن مع خروج عدة تظاهرات شعبية خجولة في أكثر من مدينة ومنطقة سورية، تطالب بالحريات العامة والخاصة، والإفراج عن المعتقلين السياسيين من كل الأطياف الفكرية، الذين تضيق بهم سجون ومعتقلات “نظام آل الاسد”.
ومع تواصل التظاهرات وتمددها على المساحة الجغرافية للقطر السوري، باستثناء المنطقة الطائفية التي ينتمي اليها الأسد. تطورت الإحتجاجات، وتحوّلت الى إعتصامات يومية مفتوحة، في غالبية الساحات والميادين السورية، على الرغم من ضراوة القمع والعنف الذي تعرّض له الناشطون والناشطات، التي بدأت تنذر بما هو أخطر، عندما زعمت سلطات “آل الأسد”، أنها تواجه “جماعات إرهابية”، تتآمر على الوطن، لتبرر ارتكاباتها وممارساتها العنيفة ضدّ الشعب السوري، أمام الرأي العام العربي والعالمي، وتستكمل إفراطها في إستخدام كافة أنواع الأسلحة كوسيلة رادعة، الأمر الذي أدّى الى إستشهاد العشرات من الناشطين يوميًا، وإعتقال المئات من الناشطات والناشطين، والكهول والنساء والأطفال، وملاحقة ذويهم، إضافة الى نزوح الآلاف من السوريين الى الدول المجاورة، مثل تركيا ولبنان والأردن، قبل توسّع السلطة في عملية تشريد وإبعاد الشعب السوري قسريًا الى دول أوروبية وعربية أخرى.
وفي السياق نفسه، شهدت القوى العسكرية (جيش نظامي وشرطة أمن داخلي) السورية سلسلة إنشقاقات قادها ضباط من الرتب المتوسطة (مقدم/ رائد) وما دون، قبل أن تشهد المؤسسة نفسها لاحقًا، إنشقاقات لعدد كبير من الضباط ذوي الرتب العالية، (عمداء وعقداء)، الأمر الذي يَشي بتداعيات خطيرة على النظام بمجمله، بخاصة، بعد تواصل الإحتجاجات وتزايد أعداد المشاركين فيها، ورفعها سقف شعاراتها تدريجيًا، وصولًا الى مرحلة المطالبة الصريحة بإسقاط النظام.
قمع “الثورة”..
تواصلت “الثورة السورية”، وما تزال مستمرة وإن بشكل خجول، في بعض المناطق السورية، ولا سيما في الشمال السوري، بعد إنحسار “الثورة”، وإخراج قواتها (المتنوعة/ المتناحرة) من الغالبية العظمى من المناطق الجغرافية التي سيطرت عليها خلال أكثر من عقد من الزمن، وذلك بتعاون واضح وجليّ مباشر، مِمّا تبقّى من قوات عسكرية “ميليشياوية” تابعة لنظام “حاكم دمشق” بشار الأسد، وحلفائه في إيران، والميليشيات الطائفية والمذهبية التابعة لها، التي تمّ استحضارها على عجل من بعض الدول العربية والأجنبية، إضافة الى حليفه الأول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تورّط منذ أكثر من سنة في غزو أوكرانيا، والذي لم يوفّر سلاحًا روسيًا متطوّرا، إلّا واستخدمه في استهداف الشعب السوري، في كلّ المناطق التي سيطرت عليها لاحقًا ما بات يُعرف بقوات “المعارضة السورية” التي تمّت عسكرتها، فقط من أجل تحقيق مصالحه، والمحافظة على موطىء قدم له في المياه الدافئة على شواطى المتوسط، وحماية نظام حليفه بشار الأسد، وتزايدت أعداد النازحين السوريين المتتشرين في العالم، كما ارتفعت أعداد المعتقلين، والمخفيّين قسرًا، وما تزال تتعاظم.
المغيّبون قسرًا..
وفي هذا السياق، تشير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، في تقريرها عن شهر كانون الثاني الماضي 2023، الى مقتل 65 مدنياً، بينهم 16 طفلاً و4 سيدات، وعاملاً واحداً في الفرق الطبية، كما سجّلت مقتل 4 أشخاص تحت التعذيب على أيادي جلّادي النظام، إضافة الى ووقوع مجزرتين، ووفقا للتقرير نفسه، تمّ تسجيل أكثر من 178 حالة اعتقال تعسّفي، لأفراد سوريين، منهم 14 طفلاً، و7 سيدات، على أيادي ميليشيا نظام حاكم دمشق، كما رصد التقرير أكثر من 9 حوادث اعتداء على مراكز حيويَّة مدنية في محافظة إدلب، 8 منها على أيدي الميليشيات المذكورة، كما سجل وقوع 7 ضحايا جراء انفجارات في محافظات حلب وإدلب ودير الزور، إضافةً إلى استمرار سقوط ضحايا مدنيين بسبب الألغام في محافظات ومناطق متفرقة في سوريا.
ومع تواصل جرائم النظام بحق الشعب السوري، عمومًأ، تبقى الجريمة الكبرى، في إصرار النظام على إحتفاظه بالمعتقلين وكأنهم رهائن حرب، وهم ليسوا كذالك، بالتزامن مع تجاهل المجتمع العربي الرسمي لقضية المعتقلين والمغيّبين والمخفيّين قسرًا، وأيضًا تجاهل المجتمع الدولي لهؤلاء، الذي باتوا بحكم المنسيّين، إضافة الى تجاهل قضيتهم من قبل مَن يتحدثون بإسم “الثورة السورية”، من “قيادات وزعامات سورية” شغلت مناصب عديدة في الأطر السياسية التي أنتجتها “الدول الراعية والداعمة” للمعارضة السورية، حيث يجب أن تكون قضيتهم في البند الأول في أيّ مفاوضات مع النظام بشأن حلّ الأزمة السورية، بخاصة أن الكثيرين، بل الغالبية العظمى من هؤلاء المعتقلين والمغيّبين قسرًا، لم يتم إعتقالهم في الميادين حيث كانت التظاهرات ضدّ النظام، ولا على الجبهات العسكرية، بل تمّت عملية إعتقالهم (كبدل مطلوب)، أيّ أن النظام يعتقل الأب كرهينة، الى أن يستطيع الإمساك بإبنه الناشط، والعكس صحيح، كما أن هناك معتقلات كثيرات، تم إعتقالهنّ خلال حضورهن الى مراكز أمنية للسؤال عن إبن مطلوب، أو زوج مفقود، أو أب طال إنتظار عودته الى المنزل.
وفي السياق، طالبت الشبكة في ختام تقريرها، مجلس الأمن باتخاذ إجراءات إضافية بعد صدور القرار رقم 2254، وشدَّدت على ضرورة إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحاسبة جميع المتورطين، بمن فيهم النظام الروسي بعد أن ثبت تورطه في ارتكاب جرائم حرب.
وسبق لهيئات حقوقية سوريّة، إشارتها الى أن النظام السوري انتهج التعذيب والقتل والإخفاء القسري كسلوك “أمني” مع كلّ المعتقلين، منذ بداية الحراك الشعبي في سوريا، وعمد الى إنكار وجود عشرات الآلاف من المعتقلين في معتقلاته، وتغييب الآلاف منهم بين جدران سجونه الموزعة في العاصمة دمشق، وبعض المناطق المجاورة لها.
انقذوا المعتقلين!..
وقدّرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، أعداد المعتقلين السوريين بأكثر من 180 ألف، منهم أكثر من 120الف ما يزالوا قيد الإعتقال والتغييب منذ بداية الاحتجاجات في العام 2011. ما يعني أن النظام السوري، يعتقل أكثر من 89% من إجمالي المعتقلين، من بينهم نحو 4,100 طفل، وأكثر من 1,000 إمرأة وشابة، في حين تبقى النسبة الباقية من المخفيّين قسرًا، موزعة بين معتقلات “المعارضة السورية”، ومعتقلات القوات الإيرانية، ومعتقلات الميليشيات الطائفية التابعة لها، حيث تحتفظ كلّ قوة بعدد من المعتقلين بهدف المبادلة، أو التصفية الجسدية إنتقامًأ لقتلاها الذين يسقطون في جبهات القتال.
في المحصلة النهائية، بات من الضروري والملحّ أن تضع “المعارضة السورية”، ومَن يمثلها في أيّ مفاوضات مع النظام وحلفائه، ملف المعتقلين والمغيّبين والمخفيّين قسرًا كبند رئيسيّ على جدول أعمالها، فالشهداء ارتقوا الى ربهم، وباتوا في عهدة الرحمن الرحيم، وبعض الدول العربية والأجنبية تحتضن الملايين من النازحين، مع التحفّظ على طريقة وأسلوب تعامل بعض الدول المضيفة مع هؤلاء. يبقى ملف المعتقلين هو الأهم والأكثر حاجة وإلحاحًا الى المعالجة، بخاصة، وأن أعدادًا كبيرة من هؤلاء، لا أحد يعرف عنهم أيّ معلومة، ولا يُعرف إذا تمّت تصفيتهم، كما حصل مع الكثيرين من المعتقلين، كما أفاد عدد من المعتقلين الذي حالفهم الحظ وتمّ الإفراج عنهم من معتقلات النظام.