الأنين ليس تعبيراً بارداً عن الألم وحسب؛ يمكن للأنين أن يكون أيضاً دالّة على الحياة ونداءًا حارّاً لإثبات وجود، وقد يغدو الأنين سبيلاً وحيداً إذا ما تراخت حبال الصوت وفقدت قدرتها على الصراخ بوجه العدم. لكنّه، الأنين، يبقى أحد تجليّات العجز واستسلاماً لقدرٍ لم تُجدِ معه كل محاولات النجاة المبذولة من العقل والجسد.
وإذا كان أنين العديد من ضحايا الزلزال السوريّ والتركيّ، ممن أغلقت عليهم منافذ النجاة، قد استطاع الوصول من بين الأنقاض والردم إلى فرق البحث، وكان سبباً في إنقاذهم وعودتهم إلى حياتهم وأحبّائهم، إلاّ أنّنا لا ينبغي أن ننسى مئات آلاف المعتقلين في مسالخ التعذيب الأسديّ ممن يفقدون أرواحهم دون أن تتمكن صرخاتهم المزلزلة من الوصول لأحد، ودون أن يلامس أنينهم المخنوق الآذان الصماء والضمير الهارب لفرقٍ مهمتها الوحيدة قتل الإنسان واغتيال الحياة.
لم ترتجف قلوب السوريين لارتجاف الأرض في الشمال الغربي لسوريّة، ولم تتزلزل إرادة الناجين من الكارثة الطبيعيّة التي دهمت أرواحهم والبقيّة الباقية من ممتلكاتهم وأرزاقهم، لم تستطع السقوف الهابطة والجدران المتساقطة وسيول الأتربة طمر ذاكرتهم وأحلامهم المطرزة بالتوق والحبّ، ولا جرْف وعيهم بقضيتهم وبأسباب بقائهم وسبل انتصارهم على عدوان الطغيان الأسدي الذي يستدف حلمهم بالحرية والعدالة والحياة الإنسانية الكريمة.
إنّ الضعف الإنساني أمام قوى الطبيعة وجبروتها، وكذلك أمام قطعان الغيلان والضباع البشريّة، يمكن له أن يتحوّل إلى قوّة خرافيّة إذا ما توفرت إرادة جمعيّة على المواجهة والانتصار للحياة، وتضافرت عوامل المعرفة والعلم والعمل، حينذاك تنهض الشجاعة في العقول التي أدمنت العطالة والجبن بين الأسوار العالية للخوف، وتتفجر ينابيع العزيمة في أوردة السواعد الموهنة.
لقد أسفرت المأساة الجديدة عن وعيٍ اجتماعي عميق ومتجذّر بين السوريين يتجاوز الانتماءات ما قبل الحضاريّة، ويعلو على الهويّات المغلقة والضيّقة، فشهدنا حالات من السخاء والتضامن والتعاون المجتمعيّ تصلح لأن تكون أنموذجاً أخلاقيّاً وقيميّاً للعديد من الشعوب التي تدّعي الحضارة والتفوّق، كما أظهرت جهات إعلاميّة، وإغاثيّة، وفرق البحث والإنقاذ التابعة لمنظمة الخوذ البيضاء معرفة وخبرة عالية، ووعياً وطنيّاً وسياسيّاً مطابقاً تبدّى في الاستجابة السريعة لتبعات الزلزال وآثاره المدمّرة من خلال عمليّات الإنقاذ والإغاثة، وتأمين احتياجات الناجين والمتضرّرين بالرغم من الموارد والإمكانات الضئيلة والمحدودة، كذلك من خلال رفض تسييس الكارثة الإنسانية وعدم الإذعان للشروط المذلّة للمنظمات الأممية، أو الخضوع لابتزاز المجتمع الدولي الذي لم يتورّع عن تسليم معظم المساعدات الإنسانية إلى نظام الحيوان السارق الذي افترس ما أمكنه من الضحايا في عدوانه على الشعب السوريّ المناهض لطغيانه، وحصاره له، ومنعه الغذاء والدواء عنه، ثمّ إنه يحاول إعادة تدوير هذا النظام الكبتاغونيّ المجرم.
لقد تألم السوريّ لعظمة مصابه ونزفت روحه ودمعت عيناه، وعصفت بحواسه رياح القلق والقهر، لكنّه سرعان ما عضّ على مكمن ألمه، ولملم أطراف محنته، فلم يئنّ ولم يهن حين وجد نفسه وحيداً في مواجهة هول الزلزال وفداحة نتائجه، وقد دفع به تخاذل المجتمع الدوليّ، وتلكؤ المنظمات الأمميّة عن نجدته، وتباطؤها حتى في تقديم الشحيح من المساعدات الأقلّ أهمية في سلم احتياجاته، إلى إدراك حقيقة أن ليس له إلاّ الله، وأن ليس للسوريّ إلاّ السوريّ…
ولعلّ عبارة الإعلاميّ محمد الفيصل، الناشط في مناطق الشمال المحرر، تفسّر وتختزل موقف السوريين من الدور الأممي المظلم والمخجل حيال المشهد الفجائعيّ للزلزال السوريّ حين خاطب المجتمع الدولي قائلاً”: جايبين لنا منظفات؟! ليش بقي عنّا بيوت لننظفها، خلّوها لكم. نظفوا بها ضمائركم”.
المصدر: إشراق