بعد أن فرضت الولايات المتحدة نظام سويفت على المصارف العراقية، ونجح هذا الإجراء بمنع كبير لتهريب الدولار الذي يطرحه البنك المركزي العراقي، بما قيمته 300 مليون دولار يوميا، تشتري المليشيات الولائية ووكلاؤها الصغار من أصحاب محلات الصيرفة 250 مليوناً منه يوميا لتهريبه إلى إيران لدعم مجهودها الحربي، وحرسها واقتصادها، ودعم حرب روسيا في أوكرانيا. لم يتأخّر رد طهران ومليشياتها التابعة لأحزاب العملية السياسية على هذه الإجراءات، بل تحرّكوا وبسرعة بالجواب على هذا المنع، ليس ضد الولايات المتحدة، بل ضد فئة معينة من أبناء الشعب العراقي، حيث اقترفوا عدة مجازر ضد نخب مدنية وعسكرية، حصريا من مناطق نفذت فيها المليشيات الإجرامية مجازر التطهير الطائفي، مثل ديالى، إذ اغتيل طبيب معروف في مدينة بعقوبة، يبدو أنه رفض الابتزاز وطلب الإتاوة، كما اغتيل عقيد طيار شرقي محافظة الأنبار ومدرس متقاعد في محافظة بابل ومواطن في محافظة ميسان.
وجاءت هذه السلسة من الاغتيالات بعد يومين من مقتل تسعة أشخاص، بينهم امرأتان ورجل معوق من الجيش السابق، وجرح آخرين في هجوم مسلح استهدف مزارعين داخل أراضيهم في قرية في ضواحي مدينة الخالص. وقد صرح أقارب الضحايا بأن القوات الحكومية كانت قرب مكان الحادث، لكنها تركت الجناة ينفذون الجريمة، ولم تتحرّك لمنعها أو للقبض على أصحابها. ليس ذلك فحسب، فقد خرج مقتدى الصدر فجأة عن صمته، ونشر تغريدة مليئة بالأفكار غير المترابطة، ليؤكّد أن هناك “طائفة حقة”، لا يجب أن تستغل موقعها هذا، وتشتم مدينة الأعظمية، التي فيها جامع أبو حنيفة النعمان، في زياراتها مدينة الكاظمية! واستطرد الصدر في تغريدته العرجاء، ليجعل نفسه غير طائفي، متهما من لا يعتقد بما يذهب إليه بالطائفية. وكانت تغريدته هذه مناسبة لتسجيل بعض أتباعه فيديو لزيارة الكاظمية، وهم يردّدون عبارات الشتم الطائفي، ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي.
ومع ما يجري، وبمناسبة الحملة على المحتوى الهابط في العراق، والذي شغل الناس ومختلف مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا بعد أن اعتقلت وزارة الداخلية بعض أصحاب هذا المحتوى وصاحباته الذين لهم مواقع وصفحات على “تيك توك” وغيره، تساءل الصحافي عدنان الطائي، صاحب برنامج الحق يقال في قناة UTV، عن تجريم المحتوى الهابط، ووضع أصحابه وراء القضبان، ومن يُحاسب مشاهير الفحش السياسي، مخاطبا هؤلاء: لماذا مقدّساتكم محترمة ومقدّسات الآخرين غير محترمة، واصفا ما يجري بالاستبداد والطغيان الحقيقي الذي ينشره بعضهم، منهم الملياردير باسل الكربلائي، الذي في كل المناسبات الكثيرة سنويا يسبّ صحابة الرسول، وينعتهم بالعصابة، ليصبح مثلا يحتذي به من يمتهن هذه المهنة التي تنشر الفتنة وتؤلّب العراقيين بعضهم على بعض، وليكون أحد أهم أدوات الشحن الطائفي الذي تستعمله أحزاب عملية الاحتلال السياسية لشقّ الصفّ الوطني. وقد تبع تعليق الصحافي عدنان الطائي أن متطرفين ألقوا قنابل على مبنى قناة التلفزيون في بغداد، وأرسلوا إلى الصحافي المحبوب، الذي يتابعه الشعب العراقي، تهديدات بالقتل والتصفية. وبدلا من اتخاذ إجراءات لتهدئة ردود الأفعال ضد هذا الإرهاب الفكري الذي ينشره المتطرّفون والمليشيات الولائية وأتباعهم من المستفيدين، وبعضهم من القتلة، وإلقاء القبض على المجرمين الذين أرادوا تفجير القناة وقتل العاملين فيها، وجّه رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي فائق زيدان، باتخاذ إجراءاتٍ مشدّدة ضد من يسيء الى مؤسسات الدولة في مواقع التواصل، وخصوصا من هم في خارج العراق، لتقوم إحدى القنوات الإعلامية الحكومية بحملة تشرح فيها ما يريده رئيس مجلس القضاء الأعلى “ومن وراءه”، جاء فيه أن “الذين ينشرون فيديوهات (هابطة المحتوى) تسيء للعراق وللعراقيين وللمعتقدات الدينية وللرموز وشخوص مجتمعنا العراقي بصورة عامة. سيتم عمل ملف استرداد كامل بخصوص من يقوم بذلك، وستتكفل وزارة الداخلية بالتعاون مع الشرطة الدولية (الإنتربول) لاستقدامه من خارج العراق، حتى ينال جزاءه العادل بأقرب وقت ممكن”.
وخلال الحملة التي شنتها وزارة الداخلية على “المحتوى الهابط”، التي جرت قبل أيام، رأت غالبية من العراقيين على مواقع التواصل وفي النقاشات العامة أن هذا المحتوى يبدأ بالأداء السياسي لما بعد الغزو واحتلال العراق وفي كل الميادين، وهو الأخطر، والذي أوصل العراق إلى أن يكون الأسوأ في كل شيء، بحسب التصنيف العالمي للفقر والمعيشة والتعليم والصحة والثقافة والتربية، ناهيك عن الاقتصاد والدفاع والسيادة والتبعية. وذلك ما أرعب الأحزاب السياسية والمليشيات ومشايخ الدين، وبالأخص دفع أدوات إيران بأشكالها من رجال دين ومليشيات للتحرّك والقيام بمجازر ضد مناطق بعينها لإعادة إشعال الطائفية في العراق، وإرسال رسالة إلى الشعب العراقي والولايات المتحدة بأنها هي من تهيمن على العراق وعلى ما فوق الأرض. وجرى تسريب مسوّدة قانون نسب لهيئة الإعلام والاتصالات من 31 صفحة “تتعكز” فيه قضية حرية النشر والديمقراطية على تعابير مطّاطية وواسعة، يمكن للسلطة استعمالها لسجن من تريد ومعاقبته وتكميم الأفواه بحجج المقدّس والدين والقيم العراقية والأمن الوطني والوحدة الوطنية وعدم إثارة الكراهية والتحريض وازدراء الأديان والعنصرية ومنع استهداف النظام الديمقراطي.
منذ الغزو وبالتنسيق مع إيران وتشكيل مجلس الحكم من الحاكم المدني بريمر، ومن التحق بالعملية السياسية فيما بعد، ومع مجيء كل حكومة، لم يجد الشعب العراقي حكومة وطنية تعمل كدولة وطنية تخدم شعبها، وتسير به في طريق التطور والازدهار، بل العكس هو الصحيح، وكل ما ورد في تعابير مسوّدة هيئة الإعلام والاتصالات المسرّبة كما يقال، فهي في تناقض صارخ مع ما تقوم به حكومات ما بعد الاحتلال، وبعيدة كل البعد عن الأدوار المرسومة لكل من هم في الحكم اليوم، الذين انتفض الشعب العراقي لإزاحتهم في ثورة تشرين عام 2019، والتي قمعت بوحشية وبالطريقة نفسها التي يُقمع بها اليوم الشعب الإيراني. لقد شيّع أبناء العراق في 2019 أول دخولهم ساحة التحرير نعشا أطلقوا عليه الطائفية (2003 – 2019) ومنعوا دخول أي رجل دين أو سياسي، وحمل صورة أي شخصٍ، كان من كان من جوقة الاحتلال الأميركي الإيراني، رافعين راية العراق، مجتمعين حولها، يدافعون عنها بصدور عارية، منهم من سقط برصاص قنّاصة قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وهادي العامري ونوري المالكي وعادل عبد المهدي، وهو يهتف “انعل أبو إيران لأبو أمريكا”، و”إيران برّة برّة بغداد تبقى حرّة”.
مشاهد تشرين لم تطوها الأيام ولا السنوات، بل تجذرت لدى غالبية الشعب العراقي الذي لفظ العملية السياسية تماما منذ سنوات، قبل حكومة مصطفى الكاظمي القمعية التي سارت على خطى عادل عبد المهدي في الدوس على العراقيين، واليوم حكومة محمد شياع السوداني “الإطارية” التي تديرها علنا السفيرة الأميركية في بغداد، إيلينا رومانسكي، التي يدل تدخّلها المستمرّ في عمل الحكومة على فشل ذريع للعملية السياسية، وعلى نهايتها الحتمية التي ستكون على يد الشعب العراقي.
المصدر: العربي الجديد