أكثر من ثلاثة أيام (72 ساعة) مرّت قبل أن يبدأ حديث تأخّر تنفيذه كثيراً، عن احتمال فتح معبر واحد للمساعدات الأممية القليلة والمبرمجة سابقاً، من دون فرق ووسائل الإنقاذ نحو مناطق شمال غرب سوريا، الأكثر تضرّرا وهشاشة في الوقت نفسه. كان هنالك الآلاف تحت الأنقاض، بعضهم قضى نحبه، والآخر ينتظر مرور الثواني الثقيلة. مثلهم كان أهلهم حول الأنقاض أو في بقاع الأرض التي ضربوا بها وبالبحر هرباً من الحرب والنظام الاستبدادي، أو من الخدمة في جيشه وهو يقتل شعبه.
في البدء نعزّي أهلنا السوريين في الشمال الغربي وفي الساحل وحماة وحلب بالضحايا، ونعزّي جيراننا في تركيا التي حضنت السوريين منذ البداية بأفضل مما فعل غيرها، وها هم قد شاركوا بدورهم في أنطاكيا وعينتاب وغيرهما الموتَ مع مضيفيهم. هو الزلزال الأكثر شدّة وفتكاً في هذه المنطقة في التاريخ الحديث. بلغت شدّته 7.8 على مقياس ريختر، الذي تُحتسب أرقامه بشكل لوغاريتمي، تزداد شدّته أضعافاً كلّما زادت بالأعشار. غطّت مناطق الكارثة ما بين أضنة غرباً ودياربكر شرقاً، ومن ملاطية شمالاً مروراً بإدلب وحلب وأنطاكيا وشمال غرب سوريا بمجمله والساحل السوري حتى حماة جنوباً.
يقيم في غازي عينتاب حالياً الكثير من اللاجئين السوريين، ما يشكّل أكثر من 40% من سكّانها، وفي هاتاي يبلغ عددهم أكثر من عشرين بالمئة من سكانها. حصد الزلزال الأتراك والسوريين معاً في تلك المناطق، وضمّت أعداد الضحايا الرسمية التركية عديد السوريين. سوف تزيد هذه الكارثة عمق محنة السوريين وآلامهم وتشتّت مصائرهم بالتأكيد، ولكنّها – في طريقها- أظهرت أمام عيوننا حقائق مختلفة قليلاً أو كثيراً عن استنتاجاتنا السابقة:
أظهرت عمق الأزمة الأخلاقية التي يعيشها العالم، التي ستودي به إلى حالة فوضى جديدة، تجعل من مشكلة البيئة والفقر والخلل في التنمية، أو التأخّر مصادر أكثر تفجّراً في السنوات المقبلة. كانت قوى دولية هي الأكثر تأثيراً مهتمة خصوصاً بتوازناتها وصراعاتها، قبل أن تحدّد موقفاً أو سلوكاً تجاه الكارثة وضحاياها الأيتام، بل إن الكيان الوحيد الذي ما زال السوريون يتشبثون به – الأمم المتحدة – أظهر قصوراً واضحاً في اتّخاذ خطوات تساعد على الإنقاذ وتخفيف الخسائر. مجلس الأمن أيضاً لم يتحرّك إلّا بعد ستة أيام، ليس فقط بتأثير موقف روسيا والصين المخزي، بل غيرهما أيضاً. وربّما كان مفهوماً مستوى تلك الأزمة حين نتوقّف عند تلك الصراعات ومفاعيلها وحسب، لكنّه ينحدر بقوة تحت تأثير السياسات الانتخابية في كلّ مكان. هنا يبرز الموقف التركي، حيث تحتدم المعركة الانتخابية، حتى أدّت في الأشهر الماضية إلى انعطاف كبير نحو الحوار مع النظام السوري والمصالحة معه، بالتوازي مع إطباق اليد على خناق المعارضة الرسمية، التي تتّخذ من إسطنبول مقرّاً لها. يشبه هذا الانعطاف المفاجئ مواقف القيادات الشعبوية في أكثر من مكان، ويشبه مواقف ترامب وقيادته العالم عن طريق تويتر، لا يشبه السياسة التركية التي نعرفها جيداً، إلّا قليلاً. كانت الحدود مغلقة بإحكام في الأيام الحاسمة الأولى لتطوّر الكارثة، في عملية لا تساعد على إقناع الناخبين بالموقف الصامد العنيد في وجه السوريين وحسب، خصوصاً اللاجئين هناك، أو أولئك النازحين في الشمال الغربي مع مضيفيهم. كادت الإجراءات المتخذة تبدو وكأنّها تستفزّ وتستنبت المشاعر السلبية لدى السوريين، بحيث تسهم أيضاً في السياسات المحلية المأزومة، ولو بالضرب تحت الحزام، وخارج المنظومة التي طالما كان هناك التزام بمبادئها وقيمها.
كأنّ النظام الأسديّ أيضاً قد سُرّ بدوره بالكارثة – وظهرت في الإعلام ضحكات الأسد العريضة عند زيارته مؤخّراً لمواقع تأثّرت بالزلزال – وعرقل بقوة وصول المساعدات من المواطنين اللبنانيين أيضاً، كما منع بدوره – مع فصائل المعارضة المسلحة أيضاً – قوافل المساعدات المقبلة من مناطق الإدارة الذاتية نحو الشمال الغربي من المرور عبر مناطق سيطرته.. أخذ بشار بمراقبة تطوّرات الكارثة من قصر المهاجرين في الأيام الأولى، آملاً بالمساعدات الخارجية لتنقذ اقتصاده العصبوي المتهالك، ولتعطيه منصّة يطلب من خلالها رفع العقوبات الغربية والأممية عن كاهله. تأخّرت عمليات الإنقاذ كثيراً، وزادت أعداد الضحايا في محافظتي اللاذقية وحماة، وانعكس ذلك في آمال ضائعة بخروج من كانوا أحياءً، أحياء من تحت الأنقاض. وفي أوّل فرصة للنظام على الإعلام الخارجي، المدعوم من دولة خليجية مهندسة للانفتاح على النظام، قالت بثينة شعبان مستشارة بشار- ما غيرها- إنهم في دمشق منفتحون وجاهزون لتلقّي المساعدات من أي دولة كانت، واستدركت بطريقة استعراضية فاستثنت إسرائيل. أما الطرف الثالث المعنيّ هنا، فهو المعارضة الرسمية السورية، وربّما نضمّ لها المعارضة – شبه الرسمية – التي تحكم محافظة إدلب وبعض ريف حلب. غابت تلك المعارضات عن الصورة، ولم تعد إلّا في إعلام هيئة تحرير الشام – النصرة- التي ظهرت على التلفزيونات في جنديرس المنكوبة، قبل إطلالة «أبو محمد الجولاني» بنفسه يتفقّد الأوضاع. غابت «الحكومة المؤقتة» التابعة للائتلاف حتى جاءت مهمتها، وغابت» حكومة الإنقاذ» التابعة لهيئة تحرير الشام، حتى جاء وقت التزاحم على الظهور مع الأولى.
اختفت تلك المعارضة السياسية، واختفت معها المعارضة المسلّحة أيضاً، التي ربّما منعها من الإسهام بشكل إيجابي في الإنقاذ والمساعدة، عدم ورود الأوامر- ماكو أوامر- لم يظهر لها موقف إلّا حين وردت من شمال شرق سوريا قافلة شاحنات المساعدات الإنسانية والوقود تنشد المساعدة الإنسانية، فمنعت مرورها بعض الفصائل المسلّحة الشديدة الولاء، وادّعت أن هذه المعونات والنوايا استثمار للكارثة ينبغي منعه، ولو كان إسهاما في منع ضخامة الكارثة. كان ذلك متوقّعاً بعد أن قال الرئيس أردوغان نفسه منذ بدايات الموضوع، إنه لن يسمح لأحد – باستثمار الكارثة. وكان يعني غالباً مجلس سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا، إضافة إلى خصومه في الانتخابات القريبة بالطبع. لسنا واثقين بعد من خلوّ الترخيص الجديد الذي صدر في الولايات المتحدة، من ثغرات ذات معنى سياسي كامن ومفاجئ، وهو القرار باستثناء المواد المتعلقة بالزلزال من العقوبات على النظام. محتوى القرار فضفاض كما ذكر بعض أهل الاختصاص، و»يمكن تطبيقه على أي مادة أو أي صفقة بحجة أنها «إنسانية» حتى استيراد المواد الكيميائية الدوائية التي لها استخدامات متعددة، يمكن ان يتم استيرادها بحجج إنسانية». تلك المواد يمكن توظيفها لتصنيع الأسلحة الكيماوية، وحتى الكبتاغون. قد يعطي ذلك ثغرة تنفّس لبارونات الحرب وتجارتها في النظام المُتهلهل، لا تنقصهم كثيراً. هؤلاء يتاجرون حتى بالمساعدات الإنسانية العينية نفسها، وقد فعلوا سابقاً، ويفعلون الآن. وعلى العموم، تبقى المسؤولية في العمق على عاتق النظام الأسدي الذي أوصل السوريين إلى حيث هم ليلة الزلزال وبعدها.
ليس الوقت مناسباً للتوسّع في مناقشة تلك المسائل، ولكن إثارة بعض العناوين ضروري، تنبيهاً على الأقلّ لمن يصرّ على مواقفه التي تستثمر في الكارثة قبل انجلاء غبار الأنقاض التي خلّفتها. يمكن ربّما لفت الأنظار إلى ظاهرة جديدة في مسألة «عودة اللاجئين»، تجلّت بعودة المئات من السوريين؛ الذين سيتعاظم عددهم للأسف في الأيام المقبلة؛ الذين قضوا في ملاجئهم في تركيا بأكفانهم إلى وطنهم في المناطق المنكوبة وراء الحدود، ليُدفنوا هناك، بعد أن توفّرت لهم «البيئة الآمنة» التي يتحدّث عنها القرار 2254. وليس ذلك وحده بمحلٍّ للملاحظة، بل إن «المعابر» التي بقيت في الساعات الحرجة مغلقة أمام فرق الإنقاذ وأدواته، انفتحت أمام أولئك الضحايا وحدهم من دون تلكّؤ.
وعلى نهج أهل السياسة الذين يبحثون عن بقعة ضوء في الجدار الحالك السواد يتشبثون به لرفع معنويات الناس، يمكن الجزم بأن الرؤية ازدادت وضوحاً لدى السوريين، وعزّزت من وحدتهم في كلّ المناطق المتنافرة، بل أظهرت الطيّب من الخبيث، بقوة الوقائع الملموسة التي لا يستطيع أحد إنكارها! وعلى النخب السورية كلّها حين تصل إلى هذا الاستنتاج أن تعيد النظر في قناعاتها ورؤيتها وثوابتها، وخصوصاً في عملها الذي زادت ضرورته والحاجة إليه!
أخيراً: تبدو آثار الزلزال محدودة على الجانب السوري مقارنة بالجانب التركي- والمصيبة واحدة ومشتركة- ولكن لا بدّ من ملاحظة نسبة من قضى نحبه بين الضحايا عموماً- القتلى والمصابين- وقد رأينا كيف كانت واحداً إلى أربعة في تركيا، وواحداً إلى اثنين أو أقلّ بين السوريين. ذلك يعكس العجز في شمال غرب البلاد، والقصور في مناطق النظام، وضعف فعالية عمليات الإنقاذ، يعكس أعداداً لمصابين من دون غوث.. وذلك من وجوه المأساة الراسخة.
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي