وسط أجواء من الانكماش والريبة التي خلّفها انتشار فيروس كورونا على العالم، تحلّ الذكرى الثانية والسبعون لاحتلال فلسطين، إنها ذكرى النكبة التي – بحلولها الراهن – تتجاوز طقوسها التقليدية طيلة عقود خلت، لتحمل أسئلة جديدة مليئة بالتحديات، تستمدّ مشروعية جدّتها من واقع بات مبايناً لما سلف، من خلال العديد من المعطيات المستجدّة التي باتت تقضّ مضجع أفكار ومقولات كثيرة، كادت هذه الأفكار – للأمس القريب – أن تبلغ درجة اليقينيات، ولعل إحدى تلك الأسئلة الهامة التي تلفحنا بها ذكرى النكبة: أما يزال احتلال فلسطين هو القضية المركزية للعرب والمسلمين؟
لعلّه من المفيد التأكيد على أن احتلال فلسطين لم يسهم فقط في توجيه السياسات العربية الرسمية، بل أسهم أيضاً في رسم ملامح ومحدّدات أهم الإيديولوجيات التقليدية التي نشأت في الوطن العربي في مطلع العشرينيات من القرن الماضي، وبخاصة الحركة القومية العربية، والتيار الإسلامي، إذ تزامن نشوء الفكر القومي وتيار الإسلام السياسي مع صدور وعد بلفور(1917 )، وكذلك واكب في مراحل نموّه احتلال فلسطين 1948، وكذلك كان موازياً لمعظم حركات التحرر العربية في تلك الفترة، وفي جميع تلك الأحداث كانت قضية فلسطين حاضرة بقوّة، بل كانت إحدى العلائم الموجّهة لسيرورة الفكر العربي الإسلامي الناشئ في تلك المرحلة.
في مرحلة تالية تمكنت العديد من البلدان العربية من نيل استقلالها، ولم تكن قضية فلسطين بعيدة الحضور عن السياسات العربية الرسمية، بل كانت المحور الأساس الذي تصاغ وفقاً له مجمل التحالفات الإقليمية والدولية، بل يمكن القول: إن شرعية أي نظام حكم، أو أي حركة انقلابية، إنما تتحدّد وفقاً لاقترابها أو ابتعادها من القضية الفلسطينية. ومع استمرار أنظمة الحكم العربية في تعزيز النهج الاستبدادي في الحكم، ووقوفها عثرة كبيرة أمام أي تحوّل ديمقراطي واجتماعي، وكذلك مع وصول معظم الدول العربية إلى محميات أمنية أو قطاعات تابعة للحكام، تحرسها الأجهزة الأمنية والعسكر، لصالح المالك الحاكم، عندئذٍ لم تعد القضية الفلسطينية مصدر شرعية لأنظمة الحكم من أجل استثمار المحتوى العادل لقضية فلسطين أمام العالم العربي والإسلامي فحسب، بل أصبحت – إضافة إلى بعض القضايا الأخرى – شعاراً، بل سيفاً يستخدمه الحكام للبطش بشعوبهم حيال أي شكل من أشكال الرفض المجتمعي لنهج الحاكم الاستبدادي الدموي، بل باتت مقولات مقاومة الصهيونية والامبريالية ومناهضة المؤامرة الغربية على العرب والمسلمين هي المسوّغ الأساسي لاستمرار نهج الاستبداد والتوحّش، ولم يكن بطش الأنظمة الحاكمة بذريعة الشعارات المذكورة ليطال شعوبها فحسب، بل طال أيضاً الشعب الفلسطيني ذاته، حين تجرأت قواه الثورية على انتزاع أوراق المزاودة على قضية فلسطين من أيدي هؤلاء الحكام، ولنا في مجازر تل الزعتر 1976 ، ونهر البارد والبدّاوي 1983 ، والمخيمات الفلسطينية في الجنوب اللبناني 1986 ، ثم بعد ثورة آذار 2011 ، حصار النظام ، ومن ثم عدوانه على مخيم اليرموك، وتهجير أهله، علائم شديدة النصوع على ذلك.
ولئن كانت معظم أنظمة الحكم العربية تحاول استجداء الرأي العام العربي والإسلامي، واستثماره في صنع شعارات مقاومة إسرائيل والصهيونية، فإن انطلاق ثورات الربيع العربي، والثورة السورية بشكل أكثر وضوحاً، قد جعلت المعادلة مقلوبة، إذ أول من استنجدت به تلك الأنظمة أمام غضبة شعوبها هو إسرائيل ( استغاثات نظام الأسد وتوسلاته لإسرائيل عام 2012 )، بل باتت إسرائيل – بما تمتلكه من نفوذ على الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأميركية – هي المعوَّل عليها بحماية تلك الأنظمة باعتبارها الكابح الحقيقي طيلة العقود السابقة، لأي حراك تحرري شعبي يستهدف المصالح الإسرائيلية.
ولعلّ هذه الخديعة التي مارستها الأنظمة على شعوبها طيلة ما مضى، واستنجادها بالكيان الغاصب حين أوشكت عروشها على السقوط، هو ما دفع كثيرين ( دول – كيانات سياسية – شخصيات اقتصادية – مثقفين وساسة…) إلى إعادة النظر بمقولة ( مركزية القضية الفلسطينية) بل أصبحنا نواجه موجة من الطروحات التي لم تعد ترى في الكيان الإسرائيلي عدواً استراتيجياً، كما تدعو إلى انتزاع فلسطين من رمزيتها المركزية، متذرّعةً بأن تلك الرمزية تلاشت مع الحلم القومي، بل ثمة من هؤلاء من توجّه دون أي رادع إلى إسرائيل خاطباً ودّها، باعتبارها من يملك مفاتيح الحلول لأعقد المشكلات في المنطقة، وباتت إسرائيل – وفقاً لهؤلاء – غرفة عمليات تتقرّر من داخلها مصائر الشعوب، ولا غرابة في هذا السياق أن نرى ردّات الفعل الواسعة والأهمية الكبيرة التي لاقتها تغريدات صحفي إسرائيلي وضيع ( إيدي كوهين) خلال شهر نيسان الماضي، تتحدث عن مصير نظام الحكم في سوريا.
بعيداً عن التقييمات الأخلاقية لمن باتت البوصلة الإسرائيلية موجهة لتفكيرهم وسلوكهم، فإنّ مما هو مؤكد أن مناهضة الصهيونية لم تعد، كما لم تكن من قبل، قراراً سياسياً يقرّه أو يزيله حاكمٌ ما، أو جماعة أو فرد، بل هي ثقافة متجذّرة في الوجدان الشعبي لشعوب المنطقة، وهذه الثقافة تأسست على قضية عادلة، وقد تعززت عدالتها – مع مرور الزمن – بتضحيات هائلة وكفاح مشروع، لم تواجهه إسرائيل إلا بمزيد من التوحّش والإجرام، وبالتالي إن أُريد لهذه الثقافة أن تتغيّر، فذلك لن يكون إلّا برجوع الحقوق إلى أصحابها أولاً، وهذا ما لم تبدُ علائمه حتى الوقت الراهن، بل مما هو شديد العيان، استمرار إسرائيل في سياستها الاستيطانية، واستمرارها في اغتصاب الحقوق، وقمع أصحابها وقتلهم واعتقالهم، فهل سيتحوّل الكيان الغاصب المحتل إلى فاعل خير ليتامى القمع والإرهاب؟.
ولئن كان من الصحيح، أن ثورات الربيع العربي قد جعلت الخطاب السياسي والإعلامي ينحسر عن القضية الفلسطينية، ويصبح أكثر تركيزاً على الشأن الداخلي لبلدان تلك الثورات، فليس معنى ذلك أن صراع الشعوب مع أنظمتها الفاسدة قد أرجأ قضية فلسطين إلى مرحلة متأخرة في النفوس، بل الأصحّ – كما أزعم – أن الكشوفات المعرفية لهذه الثورات، قدّمت فهماً جديداً لتعاطي جيل الثورات مع قضاياهم المصيرية ومن ضمنها القضية الفلسطينية، ولعل أبرز علائم هذا الفهم الجديد هو تحطيم الوهم المتراكم الذي كان يقيم التخوم بين عدو خارجي وعدو داخلي، ذلك أن هذه الثنائية، وإن كان لها ما يبررها في فترة تاريخية سالفة، فإنها، وبفعل التطور التاريخي من جهة، وبفعل استراتيجيات المصالح الدولية والإقليمية، وكذلك نتيجة تبعية الأنظمة الحاكمة لمصالح الدول النافذة في العالم، قد فقدت معظم أسسها، بل أثبتت انها مجرّد وهم حاول الطغاة تأبيده، ومن ثم اتخاذه ذريعة لممارسة طغيانهم وفجورهم بحق شعوبهم، فاضطهاد إسرائيل لشعب فلسطين واضطهاد نظام الأسد للسوريين يتناسلان من رحم الظلم ذاته، وحرية الشعوب جماعات وأفراداً هي كلٌّ واحد لا يتجزأ، أضف إلى ذلك، أن أي مسعى لتحرير فلسطين أو أي بقعة أرض محتلة، يقتضي اولاً استعادة الشعوب إرادتها المكبّلة، واسترجاعها لحريتها وكرامتها، لتتمكّن من استعادة المبادرة، وانتزاع دولها من أيدي حكامها إلى أيدي الشعوب.
لقد جسّدت قضية فلسطين على مدى اثنين وسبعين عاماً، إرثاً نضالياً ليس لقضايا التحرر العربية فحسب، بل لمجمل حركات التحرر في العالم، كما أن ثورات الربيع العربي، بثرائها المعرفي والثقافي، و بوعي وشجاعة أجيالها الشبابية التي اخترقت جدران الخوف والتجهيل التي أقامها الطغاة، قد عزّزت لدى الجميع مفهوم وحدة الحق الإنساني ووحدة المبادئ، وبالتالي وحدة النضال الإنساني المشروع في سبيل التحرر من العبودية واسترجاع الحقوق، بقي القول: إن الدفاع عن القضية الفلسطينية من بوابة الدفاع عن الكرامة والعدالة والمبادئ الإنسانية ،ورفض الطغيان والإذلال، لهو السبيل الأكثر تماهياً مع نبل القضية الفلسطينية وعدالتها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا