في ديسمبر 2016، أعلن النظام السوري استعادة السيطرة على كامل مدينة حلب، بعد أربع سنوات بقيت فيها المدينة منقسمة بين القوات الحكومية في الغرب والمعارضة في الشرق، وبعد معارك عنيفة أدت إلى تدمير العديد من الموقع الأثرية، ونزوح آلاف المدنيين.
توصف مدينة حلب القديمة بـ”متحف في الهواء الطلق”. ويصنفها المهندس المعماري والباحث في التاريخ، ماهر حميد، ضمن “المدن التي لا بداية لها”، فقد تعاقبت عليها الكثير من الحضارات، وورد ذكرها في معظم النصوص القديمة.
مدينة مهدّدة
أدرجت مدينة حلب القديمة، التي تضمّ الكثير من المساجد والكنائس والمباني والأسواق المحيطة بقلعة حلب، في عام 1986، على قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو). وفي عام 2013، أدرجت المدينة على قائمة التراث العالمي المهدّد بالخطر.
وتقدر دراسة صادرة عن اليونيسكو حجم الضرّر الذي لحق بالمباني الأثرية في المدينة خلال الفترة بين 2013 و2017، بـ56 مبنى مدمراً، و82 مبنى لحقت بها أضرار جسيمة، إضافة إلى 270 مبنى أصيب بأضرار وصفتها الدراسة بـ”المعتدلة”.
وفيما تواصل أطراف الصراع تراشق الاتهامات حول المسؤولية عن تلك الأضرار، يُحمل حميد، في حديثه لـ”ارفع صوتك” المسؤولية لجميع أطراف الصراع.
يستوجب حجم الدمار “الهائل” الذي لحق بالمواقع الأثرية ورشة ترميم شاملة مبنية على أسس علمية، وفقاً لتقديرات مهندسين ومختصين في الترميم. وبعد استعادة النظام السيطرة على المدينة، انطلقت أعمال ترميم في بعض المواقع الأثرية، تحت إشراف الأمانة السورية للتنمية التي تترأسها، أسماء الأسد، وبالتعاون مع منظمات مُقربة من النظام مثل مؤسّسة الآغا خان للثقافة، مقابل دور محدود جداً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عمليات الترميم.
وينظر خبراء بكثير من القلق إلى عمليات الترميم في المدينة، خاصة وأنها جاءت بشكل “ارتجاليّ” يفتقر إلى التخطيط، وتغيب عنها المعايير العلمية في عمليات الترميم، إضافة إلى وجود عوامل “طائفية” أدت إلى العبث بالهوية المعمارية للعديد من المواقع الأثرية.
جانب من سيرة الجامع الأموي الكبير
يعتبر الجامع الأموي الكبير في حلب أحد روائع فن العمارة الإسلامية في العالم. بدأت أعمال بناء الجامع في العام 715 ميلادية، في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وانتهت في عهد خلفه سليمان بن عبد الملك في العام 717 للميلاد.
تم البناء في المساحة التي شغلتها في السابق ساحة الآغور الهلّنسية التي تحولت في العصر البيزنطي إلى حديقة الكاتدرائية المكرّسة للقديسة هيلينا، قبل أن تُصادر لصالح بناء المسجد. يقول الباحث في التاريخ، ماهر حميد : “جميع الجوامع الكبيرة في المدن الكبيرة بنيت على بقايا معابد، لم يتحوّل المعبد إلى سوق أو خان أو بيوت، تحول إلى معبد لدين لاحق”.
ويضم الجامع الكبير “مقام” النبي زكرياء. وهو السبب الذي جعل الجامع يشتهر بين “الحلبية” باسم “جامع زكريا”، حسب حميد، الذي يُرجح أن تاريخ أوّل بناءٍ في المكان يعود إلى 5 آلاف سنة، وأنه سُلم من دين سابق إلى دين لاحق.
الجامع، الذي تعرض خلال تاريخه للعديد من الكوارث الطبيعية وعمليات الهدم والحرق، تعاقبت عليه عمليات إعادة البناء والترميم والتوسعة، على غرار ما حدث في عهد سيف الدولة الحمداني، ونور الدين زنكي، والترميم الذي تمّ في عهد المماليك. لكن أشهر عمليات الترميم جرت في الفترة 1089-1094 ميلادية، إبّان الحكم السلجوقي، والتي تضمنت بناء مئذنة في الزاوية الشمالية الغربية للجامع بارتفاع 45 متراً، وهي التي أصبحت مرجعاً في بناء المآذن الإسلامية.
صَنفت دراسة اليونيسكو الأضرار التي لحقت بالجامع بـ”الجسمية”، ففي أبريل 2013، هُدمت المئذنة خلال المعارك بين قوات النظام والمعارضة، وفيما تتهم المعارضة النظام باستهداف المئذنة بقذيفة دبابة، يقول النظام إن عناصر جبهة النصرة قاموا بتفجّير عبوة ناسفة داخلها.
هذا ليس الدمار الوحيد الذي لحق بالجامع، سبقه في سبتمبر 2012، اندلاع حريق في السوق المجاور للجامع ملحقاً أضراراً بالقسم الشرقي منه ونتج عنه تدمير المكتبة، كذلك طال الدمّار جزءا من بلاط الصحن وحديقة الجامع.
الجامع الأموي الكبير.. “نموذج للعبث“
انطلقت أعمال ترميم الجامع الأموي الكبير في عام 2019. يبيّن حميد أن عملية الترميم بدأت بالتبرع الذي قدمه الرئيس الشيشاني، رمضان قاديروف، والبالغ 14 مليون دولار لأغراض إعادة إعمار الجامع في المدينة القديمة.
يتابع حميد: ” كانت البداية خاطئة، حيث أنيطت عملية الترميم بأكاديميين ومهندسين غير مختصين في عمليات الترميم”. ومن تلك الأخطاء، يذكر استخدام الإسمنت في عملية ترميم حجارة الكنيسة الواقعة تحت المسجد، ويشير إلى أن البناء سبق عصر الإسمنت، ولا يجوز في الترميم استخدام مادة اخترعت في زمن لاحق للبناء.
لكن الخطأ الأكبر الذي ارتكب في عملية البناء، حسب حميد، وأثار موجة من الاستياء، كان التغييّر في واجهة المسجد، حيث تم تغيير شكل الأقواس فيه لتطابق الطراز المعماري الفارسي المستخدم في إيوان كسرى.
يشرح حميد أسس الترميم، قائلا: “عند ترميم مبنى، يجب المحافظة على طرازه الأساسي، والتغيير يحدث في حال عدم توفر المادة التي استخدمت في البناء الأصلي، أو عدم توفر الحرفيين القادرين على تنفيذ الشكل السابق”. ويطرح تساؤلاً: “إذا كانت المادة متوفرة وكذلك الحرفيون، لماذا يحدث التغيير؟”
“تشيّع الهندسة“
يضع حميد التغيير الذي أدخل على الأقواس في سياق المساعي الإيرانية لتشييع المدينة، مستدلاً على ذلك بتحويل مسجد النقطة في حلب إلى جامع للطائفة بطابع إيراني على صعيد الشكل والطقوس. يقول: “الإيرانيون لم يتخلصوا من عقدة التاريخ عندما كانت حلب عاصمة للدولة الحمدانية الشيعية. إنهم يحلمون بتشييع المدينة، وعندما فشلوا قرّروا تشييع الأماكن والأبنية”.
وتشرف مؤسسة الآغا خان، التي تأسست في العام 1967، من قبل الأمير شاه الحسيني، الآغا خان الرابع للطائفة الإسماعيلية، على غالبية أعمال الترميم في حلب القديمة، التي تعمل بالتنسيق مع الأمانة العامة السورية للتنمية التي تترأسها، أسماء الأسد زوجة الرئيس السوري بشار الأسد.
الصحفي المختص بالآثار، عمر البنية، يصف عملية ترميم أقواس الجامع الكبير بـ”الكارثة”. يقول لـ”ارفع صوتك” إنه “بعد أكثر من عامين بمشاريع الترميم تقع كارثة إزالة الأقواس القديمة أو سرقتها ووضع أقواس جديدة على النمط الإيراني (قوس إيوان كسرى) ترسخ ثقافة إيران في المنطقة”.
وبحسب البنية، فإن أي عملية ترميم يسبقها حسب قانون الآثار السوري إعداد دراسة علمية تتضمن دراسة تاريخية للمبنى ومقترحات للترميم بشكل يتوافق مع خصوصية البناء، على أن تحصل الدراسة على موافقة المديرية العامة للآثار والمتاحف.
ويستنكر البنية منح المديرية موافقة على ما حدث في الجامع الكبير، قائلاً” : “هذا دليل على تدخل سياسي في عمل المديرية العامة للآثار لحساب مشاريع إيران”.
المصدر: ارفع صوتك