مقالات
“فساد الابتداء” ما زال يعيد إنتاج نفسه على نحو فاحش والواقع أصبح بالغ التعقيد والتركيب. هل يمكن القول إن الأوضاع البنيوية، التي صاحبت تشكيل أول حكومة وطنية سودانية غداة الاستقلال في عام 1956، كانت مختلة في طبيعة تعبيرها عن هوية المواطنة المستحقة والتنمية الشاملة لجميع السودانيين؟
وإنها هي ذاتها التي تعبر تداعياتها اليوم عما تراكم بعد ذلك، أضعافاً مضاعفة، كضريبة فادحة لذلك الاختلال، الذي لم تنظر إليه الحكومة الوطنية الأولى والحكومات التي تلتها، على نحو كان يمكن أن لا تقود نتائجه إلى هذا الوضع السياسي، الذي تعيشه البلاد اليوم؟
حيال هذا السؤال الافتراضي، وهو ليس افتراضياً بإطلاق، سنجد أنه مهما قلبنا أوجه الرأي في الأوضاع السياسية للسودانيين، والتعبيرات التي تصدر عن جميع كتلهم الحزبية، لا تنجو أبداً من تفسير واضح في خلفية تعقيدات وضعهم السياسي اليوم يعبر عن تلك الاختلالات التاريخية المتراكمة.
لأن المنظور، الذي عبر عن الرؤية المختلة لحكومة السودان الأولى حيال القضايا الوطنية لا تزال اليوم آثاره ماثلةً وبصورة بدت فيها الأمور، على ما كان فيها من اختلال تاريخي، كما لو أنها أصبحت واقعاً طبيعياً وبدت مأزقاً تاريخياً يجب التعايش معه فقط من دون أي محاولة للتغلب عليه.
واقع بالغ التعقيد والتركيب
فـ”فساد الابتداء” ذاك، على ما تقول الحكمة القديمة، هو الذي ما زال يعيد إنتاج نفسه على نحو فاحش، ولا يبدو اليوم ثمة إرادة للفكاك منه في وعي نخبة الوسط السوداني، على رغم الكوارث والحروب التي نجمت عن ذلك الاختلال، الذي صاحب وعي النخبة الوطنية الأولى لصورة السودان غداة استقلاله.
فإذا أضفنا لذلك الوعي المشوش لهوية السودان في مخيلة النخبة السودانية وطريقة إدارتها للبلد منذ الاستقلال، تخريباً أعظم نجم عن الحكم الانقلابي العقائدي للإخوان المسلمين منذ عام 1989 إلى 2019، سنجد أنفسنا أمام واقع سياسي بالغ التعقيد والتركيب.
ولا يبدو ثمة ما يعفينا من استصحاب ذلك “الخراب الأخير” لنظام الإنقاذ كنموذج إرشادي في أي خلفية لمقاربة تحليل وقراءة الوضع السياسي والاجتماعي والتاريخي للسودان اليوم، لأن أي تصور لقطيعة متخيلة بفعل زخم ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، والظن بأن ما أنجزته من إسقاط لرأس النظام في 11 أبريل (نيسان) 2019، هو كاف بذاته لبداية جديدة من دون استصحاب واع لأثر وطبيعة التشوهات العميقة، التي حدثت لهذا الوطن منذ الاستقلال، سيكون ظناً في غير محله وسيعيد إنتاج المأزق كما تبدو الحال اليوم على سطح السياسة السودانية وتفاعلاتها السائبة.
تراكمات التشويه والتخريب
نخشى القول إن تراكمات التشويه والتخريب المتطاول قد أورثت اليوم الطبقة السياسية السودانية بجميع أحزابها امتناعات عائقة في وعي تلك الطبقة، وقائمة في الاختلاف حتى على طبيعة وأصل صورة الوطن المتخيل.
غني عن القول إن ذلك الاختلاف ليس هو من جنس الاختلاف السياسي الطبيعي المؤسس على رؤية ومعنى واضح للوطن بفعل تراكم ممارسات سوية وناجحة لإدارة الاختلاف السياسي، لكن الحقيقة هي أن تاريخ الاجتماع السياسي الحديث للسودانيين دل على أن ذلك الاختلاف السياسي المفترض تم التعبير عنه من خلال حروب عسكرية متطاولة صاحبت هذا الوطن المعلول في الجنوب والغرب والشرق، على رغم ثوراته الثلاث منذ النصف الثاني من القرن العشرين.
بطبيعة الحال، لا تقدح تلك الخشية التي نتوقعها في تشوه وعي الفرقاء السياسيين لمفهوم الوطن، بأي حال من الأحوال في إرادة الشعب السوداني الذي كانت ثورته الأخيرة (19 ديسمبر 2018) تأكيداً عميقاً لنزوعه إلى الحرية والعدالة والسلام، كما هي شعارات تلك الثورة.
ضياع مكاسب الثورة
لكن للمرة الثالثة بعد ثورتي أكتوبر (تشرين الأول) 1964 وأبريل 1985 تتجلى بوادر قد تؤدي إلى ضياع مكاسب ثورة ديسمبر 2018، كما ضاعت مكاسب الثورتين السابقتين في القرن الماضي بقيام انقلابين عسكريين إثرهما.
بيد أن ما سيحدث هذه المرة مع ثورة ديسمبر 2018 يبدو مختلفاً لجهة إصرار الشعب السوداني على ألا يحكم مرةً أخرى من طرف العسكر أو الإخوان المسلمين، ولو أدى ذلك إلى دخول البلاد في حروب أهلية.
لهذا كان واضحاً فشل انقلاب 25 أكتوبر من العام الماضي، وقرار الانقلابيين الصيف الماضي بتسليم السلطة إلى المدنيين تحت ضغط التظاهرات الشعبية والضغوط الدولية.
لكن الخشية تلك تتجدد باستمرار حيال ما نراه من اختلاف لا يعكس أبداً وعياً وطنياً لمعنى السياسة، في ظل وضع انسدادي خطير كالذي آل إليه الوضع في السودان بعد انقلاب 25 أكتوبر قبل الماضي.
ذلك أن الامتناع الذي ذكرناه يبدو اليوم على أشده، فمن ناحية ثمة اكتراث وتركيز على المركز في الخطاب السياسي لأحزاب سودانية تطرح نفسها أحزاباً قومية (أحزاب قوى الحرية والتغيير– المجلس المركزي)، لكنها لم تدرك حتى الآن أن قدرتها كأحزاب قومية في أطراف السودان وهوامشه أصبحت من الماضي، وباتت ضعيفة جداً وغير ذات جدوى، بعد أن دمرت سنوات نظام الإخوان الثلاثون البيئة الحزبية والسياسية وأحلت محلها الحركات المسلحة والقبائل المسيسة.
إجهاض المرحلة الانتقالية
لعل الموقف الأول قبل الأخير، لرؤية قوى الحرية والتغيير– المجلس المركزي لشرق السودان، ما يكشف لنا جلياً جهل المركز بالأطراف وبالشرق على وجه الخصوص، على رغم ما تسبب فيه شرق السودان من إسقاط لحكومة الثورة عبر تواطؤ المجلس الأعلى لنظارات البجا مع العسكر وتسببه في إجهاض المرحلة الانتقالية.
ومن ناحية ثانية، يعكس الموقف السياسي لبعض الحركات المسلحة (تحالف الكتلة الديمقراطية) الموقعة على اتفاق جوبا للسلام وتأييدها لانقلاب 25 أكتوبر 2021، وحضها للعسكر على الانقلاب، حالة غريبة من عدم القدرة على رؤية مصلحة الوطن مع ما يدل عليه موقف تلك الحركات من عدم إدراك حقيقة أنه لو لا ثورة الشعب السوداني في ديسمبر 2018، وإسقاطه لنظام الرئيس المعزول عمر البشير، لما كانت تلك الحركات المسلحة اليوم على هذا النحو الذي أصبحت فيه مشاركة في السلطة بموجب اتفاق جوبا للسلام 2020، الذي وفرته أوضاع ما بعد الثورة.
في ظل الامتناعات التي يجسدها غياب وعي حقيقي بفكرة الوطن ينشأ عنه استعداد للتفريط بمصلحة الوطن في رؤية تلك الكيانات السياسية السودانية، كما هو ظاهر الحال اليوم، فإننا نخشى أن يكون رفض تحالف الكتلة الديمقراطية للاتفاق الإطاري رفضاً من طبيعة غير ديمقراطية، لا سيما أن نائب رئيس هذا التحالف الناظر محمد الأمين ترك كانت معارضته للحكومة الانتقالية السابقة بقيادة حمدوك عبر رئاسته للمجلس الأعلى لنظارات البجا، معارضة غير ديمقراطية ولا تمت إلى فعل السياسة بصلة، حين أغلق موانئ شرق السودان والطريق القومي بين الشرق والخرطوم لأكثر من 48 يوماً بإيعاز من العسكر.
الأمور مرشحة للتعقيد
تبدو الأمور مرشحة للتعقيد في ظل الغموض الذي يكتنف طبيعة موقف تحالف الكتلة الديمقراطية للاتفاق النهائي حال توقيعه المتوقع بنهاية شهر فبراير (شباط) المقبل بين العسكر والقوى السياسية، لا سيما أن حاكم دارفور مني مناوي رئيس حركة جيش تحرير السودان ورئيس اللجنة السياسية لتحالف الكتلة الديمقراطية كان صرح قبل أسبوع بأن “التوقيع على الاتفاق الإطاري بشكله الحالي على جثتنا”.
في سياق مضطرب لتحولات واقع سياسي سوداني ظل ساخناً وسائلاً، نظراً لما مر به من حروب وأهوال نتيجة لعجز القوى الحزبية عن إدارة الاختلاف السياسي في الدولة منذ عام 1956، تبدو حتى الثورة السودانية العظيمة اليوم عاجزة عن أن تكون محطة انطلاق مركزية للمراجعة والتفكير في جذور الاختلاف والعودة إلى منطق المصلحة الوطنية والعقلانية للسياسة.
ذلك أن انسداداً خطيراً كهذا سيردنا إلى ما ذكرناه في بداية هذا المقال من خشية أن يكون أثر التهميش لجميع الأقاليم السودانية ومضاعفاته الخطرة قد فعلت فعلها المدمر بمرور السنين في استحالة أي إدراك موضوعي للاتفاق على تصور قيمي لمعنى الوطن، أو أن ذلك الامتناع قائم في العجز عن ارتفاع جميع القوى السياسية إلى مستوى وطني مبدئي متفق عليه لمصلحة الوطن عابرة حدود السقف الحزبي الخاص.
رؤية مصير وطني
وإذا صح ما أسلفنا في التحليل، فيمكن القول إن حرص المجتمع الدولي، على رغم أهميته وضرورته، وضغط التظاهرات الثورية ضد الوضع السياسي على رغم أهميتها، لن يكونا بتلك الفاعلية إذا ما بدا ذلك الامتناع في تصورات القوى الحزبية حائلاً من القدرة على رؤية مصير وطني مشترك في الخطاب السياسي للقوى السودانية المختلفة.
إن التفكير العميق في حقيقة تلك الموانع التي تجعل القوى الحزبية السودانية عاجزة عن مطلق إدارة موضوعية للاختلاف السياسي، سيضعنا أمام خيار إدمان منهج إدارة الأزمات المستمرة وهو بطبيعة الحال خيار يدل على غياب الثقة، لأن إدارة الأزمات في العادة ستنتهي بأزمات وجودية كبيرة للمصير الوطني (كنا قد شهدنا نموذجاً منها في انفصال دولة جنوب السودان واستقلالها عن البلاد) نتيجة لانسداد نمط إدارة الأزمات في ظل حكم نظام الإخوان.
إذا لا يبدو مناخ واقع الثورة اليوم، على رغم زخمه الكبير، قادراً على استقطاب تناقضات وامتناعات الفرقاء السياسيين، أو باعثاً على تحقيق اختراقات نأمل أن تكون واردة في اللحظات الأخيرة، فإننا سنكون بإزاء مأزق كبير ما زال مستمراً.
لا يعلم، إلا الله، ما يمكن أن يفضي إليه واقع سياسي أصبح مختلفاً اليوم عن المصير الذي انتهت إليه ثورتا أكتوبر 1964 وأبريل 1985، كما نخشى القول إن قدرة الشعب السوداني على معرفة ورفض ما لا يريده (عودة العسكر أو الإخوان للحكم) وعجز نخبه السياسية عن معرفة ما تريده من السياسة، قد تفضي إلى مصير مجهول لهذا الوطن.
المصدر: اندبندنت عربية