حيث يكون الحديث عن دمشق، فإنه يتناول حدود العاصمة السورية، التي تبلغ مساحتها أكثر بقليل من مائة كيلومتر مربع، وتمتد أطول مسافة بين طرفين متقابلين فيها نحو خمسة عشر كيلومتراً، وهي الفاصلة بين جوبر وآخر أوتوستراد المزة، غرب المدينة، ويُقدر سكانها حالياً بنحو مليون وثلاثة أرباع المليون، وهو رقم تقديري بسبب العطالة التي تغرق فيها مؤسسات النظام، ومنها «المكتب المركزي للإحصاء»، وغالباً فإن الرقم مبالَغ فيه، لأن النظام يسعى حيث استطاع لإبراز وجوده في كل شيء، والأولى أن يقول إن العاصمة في ظله فيها عدد كبير من السكان الذين يعيشون تحت سلطته، وفي كل الأحوال، فإن العدد المقدَّر أقل من نصف سكان دمشق قبل عام 2011.
والحديث عن سكان دمشق في الاثني عشر عاماً الماضية يبدأ ولا ينتهي، لأنه لا يمكن أن يحيط بما تعرضت إليه المدينة وسكانها من سياسات وإجراءات وجرائم تكرس واقع انقسام حاد بين سكانها، وقد صار أكثر من تسعين في المائة منهم تحت خطر الفقر، وأقل من عشرة في المائة من أصحاب الثروات، وبعضها بأرقام خيالية. وبطبيعة الحال، فإن ذلك كرّس دمار الأكثرية، وإثراء أقلية، كما عزز تمايزاً في طرق العيش، وفي كسب المال وطرق صرفه.
إن سبب ما لحق بالفقراء من سكان دمشق يكمن في التدهور الشامل للفئات الوسطى خلال سنوات الصراع في سوريا وحولها، وتحولت كلها إلى الفقر الشعبي الواسع، وانضمت إلى ظاهرة الفقر فئات واسعة من الأغنياء والميسورين في دمشق، بعد أن تدهورت أوضاعهم نتيجة أسباب، لعل الأهم فيها انهيار المنظومة الاقتصادية في قطاعاتها وعلاقاتها ومردودها في الأنشطة الإنتاجية والخدمية التي كانت قائمة قبل عام 2011، حيث كان أغنياء دمشق حاضرين في الثروة وفي السوق، ومشاركين في فعاليات اقتصادية واجتماعية مع شخصيات نافذة داخل بنية النظام، وبدل هذه المنظومة، تم توليد أخرى قائمة في أغلبها على أنشطة خارج القانون، منها النهب والسرقة والرشى والخاوات والاحتكار والفساد، وإنتاج وتجارة المخدرات والاتجار بالأعضاء البشرية، وتتولى إدارتها مجموعة وظيفية مافياوية، عمادها الدائرة المركزية السياسية والعسكرية (والأمنية)، في بنية النظام الحاكم، ويتوالى في هوامشها ظهور وغياب أسماء أشخاص يعملون في إطارها وكلاء للمؤثرين الرئيسيين.
وترافقت مع تغيير المنظومة الاقتصادية ظاهرة لا تقل خطورة، وهي تعميم الفقر تحت ضغط القوة والإكراه، التي رسمت سياسات وإجراءات السلطة ضد السوريين عامة، وفي دمشق بشكل خاص، وكان الأبرز في سبب الفقر خراب المؤسسات الاقتصادية في القطاعات المختلفة نتيجة الحرب والدمار؛ فتوقفت أعمالها، أو تم تدميرها ونهبها، وجرى منع مَن رغب من أصحابها من إعادة تشغيلها، سواء بصورة مباشرة؛ بمنع الوصول إليها، أو بصورة غير مباشرة؛ نتيجة غياب وتغييب مستلزمات التشغيل، من طاقة ومواد أولية ونقص خبرات، وتدهور مواصفات الأيدي العاملة، وعدم فتح الطرقات. ومما عزز تزايد الفقر عاملان: الأول ارتفاع تكاليف الحياة نتيجة الغلاء، خصوصاً المواد الأساسية التي تتحكم فيها بطانة النظام، والثاني انهيار قيمة العملة السورية بصورة كبيرة، مما أدى إلى تبخر المدخرات النقدية بالعملة السورية في البنوك وخارجها.
وإذ دفعت الظروف المحيطة بأكثرية سكان دمشق إلى تراجع دورهم في الحياة العامة، فإن قسماً منهم، لا سيما الشباب وذوي الخبرات، غادر إلى بلدان الجوار والأبعد منها للإقامة بشكل مؤقت أو للهجرة، وقد أخذ النزوع الأخير يتكرس مع استمرار الصراع وغياب جهود الوصول إلى حل للقضية السورية، بينما انزوى مَن تبقى يمرر حياته بما أمكن من قدرات ضعيفة على العيش.
أما القسم الأقل من سكان دمشق، وأعني مَن نسبتهم أقل من عشرة في المائة، الذين يشكلون قلب النظام والدائرين في فلكه من كبار المسؤولين في الحكومة والحزب الحاكم وكبار ضباط الجيش والأمن وأغنياء الحرب والشبيحة، فإن السلطة وكل قدراتها موضوعة في خدمتهم، مما يجعلهم يديرون نشاطاتهم الاستثمارية اعتماداً على تشريعات وقوانين وتعليمات تصدر من المستويات العليا في النظام، بل إن بعضهم يستخدم نفوذه والقوة المسلحة؛ من ميليشيات وقوات عسكرية وأمنية، للقيام بنشاطاته ولحمايتها، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ورغم أن غالبية المنتمين إلى هذه الفئة من سكان دمشق باقون فيها لا يغادرون، بسبب مكانتهم في النظام، ومساعيهم للاستحواذ على ما هو أكثر من أموال وممتلكات، أو نتيجة ورود أسمائهم على قوائم العقوبات الدولية، أو لكونهم مطلوبين أو معرضين للاعتقال بسبب ما قاموا به من جرائم، فإنهم دفعوا للسفر بعضاً من أسرهم، خصوصاً أبناءهم الشباب، وأخرجوا أجزاء من أموال سوداء راكموها من خلال مواقعهم ومسؤولياتهم في سنوات الصراع، وهم يسعون إلى توظيفها في مشاريع وأعمال استثمارية، خصوصاً في مناطق الجنان الضريبية.
الحياة اليومية صعبة في أحياء الفقر القديم والفقر الجديد الذي تمتد جغرافيته في جنوب دمشق وشرقها وشمالها إلى وسطها، وتتراوح صعوبات حياة سكان هذه المناطق ما بين مستويين؛ يقع أولهما قرب المستحيل، من خلال عيش أدنى يعاني صعوبات كبيرة في تأمين الحاجيات الضرورية، خصوصاً السكن والغذاء، وعيش صعب، وإن كان يوفر الحد الأدنى من الاحتياجات الضرورية، فإنه يتجاهل احتياجات كانت أساسية في حياته، بينها الطبابة والتدفئة والسفر.
وتجري الحياة اليومية بخلاف ما تقدم في غالبية أحياء دمشق الغربية، التي لا تكاد تظهر فيها مؤشرات الصراع وآثاره، حيث تكاد تغيب المظاهر الأمنية فيها، وتسجل الخدمات العامة حضورها، ولا تعكس أعداد السيارات الحديثة في الشوارع ما يُقال عن الحصار والعقوبات المفروضين على النظام، أو نقص كميات البنزين التي يظهر أنها وشقيقتها، الكهرباء، متوفرة بدرجة مقبولة، فيما المقاهي والمطاعم مفتوحة ومليئة بالرواد الذين يمكن أن يدفع أحدهم ثمن وجبة غداء بما يساوي راتب موظف كبير في الحكومة.
ليست الفوارق بين كتلتي سكان دمشق مقتصرة على ما سبق، بل هي كثيرة جداً، ولعل الأهم في الفوارق أن عامة سكان المدينة؛ من فقراء قدامى وجدد، يفكرون في الوقت الذي تنتهي فيه معاناتهم، واستعادة حياتهم الطبيعية، فيما يفكر الحاكمون وحاشيتهم؛ كيف يحافظون على أحوالهم ومكانتهم، لكن بقليل من التعديلات في أوضاعهم الراهنة.
حالة دمشق وسكانها ليست حالة منفردة في الواقع السوري اليوم. بل هي مثال فج يجد ما يقاربه ويشبهه في بقية المناطق الأخرى من مدن وقرى أيضاً. وفجاجة حالة دمشق تكمن في تواصل سيطرة نظام الأسد على المدينة، من جهة، ولأنه كان، من جهة أخرى، الأقدر على رسم وتطبيق أسوأ السياسات والممارسات التي قادت إلى نكبات السوريين في الاثني عشر عاماً الماضية.
المصدر: الشرق الأوسط