بمناسبة ذكرى ميلاد عبد الناصر ، كان الدكتور جمال الاتاسي قد كتب مقالًا عام ١٩٩٢ هذا نصه:
ضمن مفاعیل دولية بالغة الأهمية . وفي سياق تحولات عالمية لم يشهد القرن العشرين لها مثيلا . وبعد عام كامل من بدء العدوان الأمريكي الامبريالي على القطر العراقي الشقيق وشعبه ومقدراته العسكرية والاقتصادية وبنيته التحتية عامة ، تحتفل الامة العربيـة بذكرى ميلاد عبد الناصر وذكرى قيام الجمهورية العربية المتحدة هذا الرجل الذي قاد ثورة / ٢٣ / يوليو التي شكلت انعطافا تاريخيا هاما ورسمت ملامح مرحلة النهضة الثانيـــــة وصنعت أول تجربة وحدوية في الوطن العربي في العصر الحديث . إنها ذكرى ميلاد القائد القومي لهذه الأمة جمال عبد الناصـر الذي أرسى قواعد بناء قومي وحدوي تقدمي ديمقراطي ، ورسم عصر الامة . الحديث بما حمل من مشروع النهوض لازال يحمل إمكانية استمراره بعـد فشل جميع المشاريع ما قبل القومية ، التي أوصلت الأمة إلى ماهي عليه من دمار و تراجـــــــــــع وتابعية ، إن ذكرى عبد الناصـر اليوم وذكرى وحدة / 58 / تاتیان حافزا قوميا يشير إلى الطريق الأكثر قدرة على الاستمرار والأكثر قدرة على التصدي لمشاريع الامبريالية العالميـة متمثلة بالهيمنة الأمريكية الكبرى والغطرسة ” الإسرائيلية ” المستقوية بتلك .
لقد شكل عبـد الناصـر بمبادئه وتجربته الثورية القومية الديمقراطية والوحدوية منهـلا لاينضب للامل الثوري العربي ، وزخما هاما لإرادة الاستمرار في نضال الامة ضد الامبريالية والصهيونية ولمقاومة التخلف المريع لدى الامة العربية وتأتي أهمية هذا المنهل اليوم ضمـن هذه الظروف الصعبة التي تعيشها أمتنا حاليا وهي تصارع الهيمنة الامبريالية الامريكي ـ احدى مراحل الامبريالية العليا ـ على مقدراتها في الخليج العربي بل في كل بقـاع الوطن العربي مع وجود النظام العربي المتهالك ، وكذلك فرض الوجود الصهيوني الاستيطاني باعتراف تسووي من قبل الأنظمة العربية التي ذهبت الى مدريد . ومن ثم الى واشنطــــــــن ثم موسكو ثم واشنطن وهي لاتحمل اية ورقة قوية تجابه بها أو تستند إليها على مائدة المفاوضات ، وفي مثل هذه الظروف المريرة التي تجتازها امتنا يصبح من الضروري الوقـوف فيها عند تجارب الامة الثورية والوحدوية السابقة ، والاستفادة منها . والتذكير المستمر بها ، كخبرة ثمينة في المضي عبر طريق الثورة العربية القومية الديمقراطية على امتداد السـاحـة العربية . لقد قبل عبد الناصـر ” بمبادرة روجرز ” التي اضطرت الولايـــــــات المتحدة الى طرحها والتي أكدت على تنفيذ القرار / ٢٤٢ / مع وقف مؤقت لإطلاق النـار ضمن ظروف وتطورات دولية مواتية ومختلفة عن الظروف والتطورات الجارية الآن ، إذ أتت بعد حدوث تغيرات بالغة الأهمية في ميزان القرى في المنطقة العربية ، وحيث تواجه أمريكا شبح هزيمة سياسية وعسكرية في الهند الصينية ، تعقب تلك الهزيمـة السياسية الواسعة المدى التي أعقبت التدخل الأمريكي ضد شعب ” كمبوديا ” واضطرار أمريكا للانسحاب من كمبوديا وتمرد أوروبي شديد ضد النفوذ الأمريكي هناك ، وتساعد أصوات عديدة تطالب بأن تلعب أوروبا دورا أكثر إيجابية وأهمية في الحيــاة الدولية ، والدعم السوفييتي العسكري والسياسي للجمهورية العربية المتحدة نوعا وكما الذي أدى الى إلغاء احتكار التفوق التكنولوجي للعدو الصهيوني . بالاضافة الى انتصار ثورتي السودان وليبيا اللتين عززتا مكانة عبـد الناصـررمزا عالميـا وإقليميا ، ضمن هذه الظروف كانت موافقة عبد الناصر على المبادرة من مركز القوة الـذي يمكنه من التحدث عن حل سلمي شامل وعادل . بينما مراكز الضعف لا يمكـن أن يأتي الا باستسلام شامل وغير عادل بالضرورة ، كذلك فإن تكتيك القبول بالمبادرة كان يهدف الى استكمال الاستعداد العسكري وتعبئة موارد مصر لمواجهة العــدو ، وقد فجر قبول هذه المبادرة تداعيات عنيفة وسط الـقوى “الصهيونية الحاكمة ” التي كانـت تبني أحلامها على أساس الخروج من المعركة بمكاسب سياسية واقليمية وقد أكد عبد الناصر أن ازالة آثار العدوان على أسس قرار مجلس الامن لاتعني حدا نهائيا للصراع وإنما هي بالتحديد وضع الصراع في مسار واتجاهـــــات وأساليب جديدة ، خاصة أن أولى الخطوات نحو تأكيد الحق الفلسطيني هــي التمسك بحق الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم حسب قرارات الامم المتحدة •
ان الاهداف الكبرى لا يمكن أن تكسب في جولة واحدة بل أن هناك جولات وجولات ذات طابع متجدد ، ولابد من استخدام كل الأسلحة بدءا من بناء القوة العسكرية التي تدعم حركة فدائية فلسطينية على أرقى مستوى من النضالية إلى العمل السياسي والدعائي المتصل . إن قبول المقترحات انهى الحجج التي روجتها الدعاية الصهيونية والتي أقامت الدنيا وأقعدتها قائلة بأن العرب يريدون القاء الصهاينة في البحر . وفي لقاء عبد الناصر مع ” بريجنيف ” في موسكو أخبره عبد الناصـر بانه يعتزم قبول مبادرة ” روجرز ” عندها انزل ” بريجنيف ” نظارته من فوق عينيه الى أنفه وحملق في عبد الناصر وقال متسائلا : ” أتعني أنك تريد أن تقول أنك ستقبل اقتراحا يحمل العلم الأمريكي ؟ ” فقال عبـــد الناصر : ” بالضبط ، اني سأقبله لمجرد أن عليه العلم الأمريكي – اننا بحاجة ماسة الى فسحة من الوقت نتنفس فيها حتى نستطيع أن نتم بناء قواعد الصواريخ ، ونحن بحاجة الى أن نهيء لجيشنا فترة راحة حتى يستعد لقفزته الكبيرة ، ونخفض عدد ضحايانا من المدنيين وإننا محتاجون الــــى وقف لاطلاق النار ، ووقف إطلاق النار الوحيد الذي يمكن أن يقبلـــــــه الإسرائيليون لابد أن يكون مصدره اقتراحا أمريكيا ، لكني لااظن أن هناك أية فرصة لنجاح المحاولة ولا أعتقد أن احتمالات نجاحها تتجاوز النصــف بالمئة . وقد اكد عبد الناصر ذلك خلال لقائه بياسر عرفات عندما قال له : إن المضي في حرب الاستنزاف بينما اسرائيل تتمتع بتفوق جوي كامل معناه إننا ـ ببساطة – نستنزف انفسنا ” . وعلى الرغم من أن عبد الناصر كان في ذلك الوقت قد أصدر الأمر للفريق فوزي ” بان يستعد للعملية ” غرانيت 1 التي ستمهد لعبور القناة إلا أن عبدالناصر لم يكن باستطاعته أن يقول مثل هذا الكـلام للفلسطينيين أو للجماهير العربية لضرورة المعركة .
اذا ضمن هكذا ظروف ، وفي جعبته كل تلك المعطيات قبل عبد الناصر بالسلام العادل والشامل كتكتيك مرحلي دون التفريط بالهدف الاستراتيجي للامة وهو تحرير كامل التراب .
لقد استلهم عبد الناصر التاريخ في جميع خطواته لبناء المجتمع العربي في مصر واستطاع نقل هذا البناء بمبادئه الاولية الى الأمة العربية وعلـــــــى كل مداها الجغرافي والانساني . ولقد عجل عبد الناصر في العملية التاريخية من خلال دوره الفعال فيها ، لما تميز به كفرد ملتحم بجماهيره وقادر على تمثل قضايا أمته ومعاناتها وطموحاتها وخصوصيتها وبكامـل الوعي للدور التاريخي الذي يقوم به .
إن وعي عبد الناصر للتاريخ بما يحمله من زخم عالي التأثير والقيمة منحته اياها القوى الاجتماعية التي مثلها . وقد وضعه في المسار الذي كان فيه فاعلا وقوي التأثير وهذا مادفع ( جواهر لال نهرو ) ليقول : ” لا ريب في أن عبد النامـــر مـــــن الرجال الذين حولوا مجرى التاريخ . ان وعي عبد الناصر التاريخي يتجسد فيما استوعبه من القضايا الفكرية العديدة في التاريخ المعاصر ، وفي انتمائه الى تراث أمته ، وعيا منه للماضي وفي الأحداث التي طرأت على مجتمعات أمته وأثرت فيها ، وفي مدى ما طـــــــرأ عليها من تغيير اتاح له تكوين وجهة نظر حقيقية لجملة قضايا الأمة وهمومها ، وقد أشار في ” فلسفة الثورة ” الى ” أن قصص كفاح الشعوب ليس فيها فجوات بملؤها الهباء ، وكذلك ليس فيها فجوات تقفز الى الوجـــــــــود دون مقدمات ” . لقد أدرك عبد الناصر وبحسه التاريخي أن الحقيقة ليست جاهزة ولا منزلة بل هي صيرورة متكاملة وتتجدد في مسار التاريخ ، وهـــي تتشكل أيضا في نفس الإنسان ، أي في تقدم حركة وعيه الذاتي واستيعابه – وهي ضرورة من خلال تلك الجدلية بين وعي الانسان وقوانين التاريخ الإنساني الناظمة لحركته ، وعبد الناصر من خلال ثوريته ومـــــــن خلال تفاعله مع تاريخ أمته وجماهير شعبه وفعله فيهما ، كان ممن صنعوا ذلك التاريخ .
ان ما آلت اليه أوضاع أمتنا بعد عبـد الناصـر من انهزام وتشتت وضيـاع قد أحبط العديد من آمال وطموحات جماهير الأمة وخاصة بعد الهزيمـــة الكبرى العسكرية والنفسية في حرب الخليج ، وإذا كان من منطق الفكر التاريخي أن يفسر الحاضر بالماضي ، وأن يجد الحدث الذي يمـر الان تعليله في توالى الأحداث التي جاءت قبله ، كذلك فإن الماضي لا ينفصل عن حكم الحاضر عليه .
والحدث التاريخي العظيم الذي تعيشه الامة في مرحلة لابد وأن يفقد الكثير من عظمته اذا ماتوالت الاخفاقات من بعده ويسبب تلك الاخفاقات ، وهكذا ينال كثيرا من شموخ المرحلة التي عاشتها تضالا وثورة وتقدما في أيام عبد الناصر ، وفي ظل قيادته وفي حضوره القومي والفاعل ، وينال كثيرا من عظمة تلك المرحلة وما كان بعدها من انتكاس ، وما کـــــــان بعدها من ردات . وذلك منطق الأمور في مراحل التقهقر الثوري ، وعندما تتوقف حركة الدفع نحو المستقبل ، كما يحصل الآن . ولقد آمن عبد الناصـر بأن الشعب القائد وهو المعلم ، ولـم يكن يوما ليصادر رأي الجماهير أو لينصب نفسه عليها قائدا مطلقا وابديا يل كان مفاتحا اياها ومكاشفا بكل القضايا المصيرية التي تهمها فكـــــــــــان يستفتيها في كل المواقف التي تحدد مسار مستقبلها كالميثاق الوطني وبيـان / ٢٠ / مارس وكان يتحمل المسؤولية ولم يتهرب منها في أية لحظــة وفعل ذلك بعد هزيمة / ١٩٦٧ / ولم يعد الا بارادة إجماع جماهير ( ٩ و ۱۰ ) حزيران التي خرجت من المحيط الى الخليج وطوعا لتقول له : سر ونحن معك ونحن نحرر مااغتصب من الأرض ، ولقد وقف عــــد الناصر بعدها ليؤكد المعطى الايجابي لوقفة الجماهير هذه وقدرتهـا على رسم ملامح مستقبل الامة ” ان الموقف البطولي المؤمن لجماهـــــــــــــر شعبنا يومی ( ۹ و ۱۰ ) يونيو هو وحده الذي صنع عددا من التحولات الهامة . . وابرز هذه التحولات كما يلي :
أولا : إننا استطعنا إعادة بناء القوات المسلحة . . . ذلك أن منطق هذا العصر ، ولعله منطق كل العصور ، أن الحق بغير القوة ضائع وأن أمل السلام بغير امكانية الدفاع عنه استسلام ، وأن المبادئ ، بغير مقدرة على حمايتها ، أحلام مثالية ، مكانها السماء وليس لهـا علـى الأرض مكان .
ثانيا : اننا استطعنا تحقيق مطلب الصمود الاقتصادي .. فلم یکن فی استطاعتنا بغير اقتصاد سليم ، أن نوفر لاحتمال الحرب ولا كـان مجديا أن نقف رابضين على خطوط النار ، بينما مقدرتنا على الانتاج معطلة وراء الخطوط ، وشبح الجوع يهددنا بأسرع من تهديد العدو لنا .
ثالثا : إننا استطعنا تصفية مراكز القوى التي ظهرت رابعا : إننا استطعنا وهذه مسألة اخلاقية ومعنوية ، أعلق عليها قيمة كبيرة ، أن نضع أمام الجماهير بواسطة المحاكمـــــــات العلنية ، صورة كاملة لانحرافات وأخطاء مرحلة سابقة .
خامسا : اننا استطعنا أن نقوم بجهد سياسي واسع على جبهـات عريضة ، عربية ودولية .
بهذه النقاط استطاع عبد الناصـــر أن يواجه المرحلة وان يصارع الهزيمة ، وبهذه الصراحـة وهـذه الثقة بالجماهير بني عبد الناصر الجيش القوي والاقتصاد المتين ، الذي خاض حرب ۱۹۷۳ ، ولم يقف عبد الناصـر يومـا لـيبرر الهزيمة أو ليغطي عليها ، وكان ملاذه دائما جماهيره الواثقـة بــه ، وكان السلام الذي يريده يقوم على العدل والقوة في نفس الوقت ، واي سـلام بغير امكانية الدفاع عنه ـ بنظره ـ هو استلام . تلك بعض من معالم حركة عبد الناصـــر وفكـره الاستراتيجي نسترشد بها لتنير الدرب في ظلام حالك ، وفي زمن عربي تقوده الولايات المتحدة الامريكية ونظم الاستبداد المشرقي .
تموز 1992