يتداخل الأمني بالسياسي، بالاقتصادي، في تعقيدات العلاقة بين فصائل شمال غربي سوريا، على مستويات ثلاثة، شخصية وفصائلية وعلى مستوى العلاقة مع الخارج، بصورة يصعب معها تشريح المشهد، للفصل بين الأبعاد الثلاثة، ومستوياتها المختلفة. وفي سياق ذلك، يتم استثمار احتجاجات السوريين المناوئين للنظام، في تلك المنطقة، من جانب مختلف اللاعبين المحليين.
ويتضح ذلك، أكثر ما يتضح، في التمهيد الإعلامي المتزامن مع تمهيد ميداني، لمعركة مرتقبة جديدة، حول معبر “الحمران”، بريف حلب الشرقي. التمهيد الإعلامي الذي جاء على شكل تسريبات وتصريحات لمصادر، لم يتم تسميتها، عبر وسائل إعلام سورية معارضة، يكشف جانباً من التعقيدات، في الوقت ذاته، الذي يحاول التعمية عليها، عبر تبسيطها.
ويشكّل المعبر المشار إليه، بيضة قبان المعابر المدرة للدخل، في ريف حلب. إذ عبره، تدخل المحروقات من مناطق سيطرة “قوات سورية الديمقراطية – قسد”، شرقاً، لتغذي كامل مناطق “الريف الحلبي” الشرقي والشمالي والغربي، وصولاً إلى إدلب. وقد استولت عليه “أحرار الشام – القطاع الشرقي”، بدعمٍ من هيئة “تحرير الشام”، وذلك في خضم جولة معارك تشرين الأول/أكتوبر الفائت. وتذهب تقديرات إلى أن المعبر يُدر نحو مليون دولار شهرياً. وكان المعبر من أبرز مصادر الدخل لـ “الفيلق الثالث”، قبل أن يخسره في الجولة القتالية السابقة. كذلك استولت “أحرار الشام – القطاع الشرقي”، على منطقة “حراقات” ترحين، قرب المعبر، حيث يتم تكرير النفط الخام بطرق بدائية، ليتم لاحقاً نقله وتوزيعه في الأسواق.
وفي خضم التمهيد الإعلامي، يمكن تلمس استغلال المصادر المحسوبة على الخاسرين في جولة القتال السابقة، للهاجس الأمني التركي، المرتبط بإحباط أية هجمات “إرهابية” جديدة على غرار تفجير “شارع تقسيم”، في إسطنبول، العام الفائت. وتتهم تلك المصادر “أحرار الشام – القطاع الشرقي”، بالمسؤولية الجزئية عن دخول المتفجرات القادمة من مناطق سيطرة “قسد” إلى الأراضي التركية، عبر “معبر عولان”، وهو معبر تهريب تديره “أحرار الشام”، غربي مدينة الباب.
نظرياً، تتبع “أحرار الشام – القطاع الشرقي”، لـ “الجيش الوطني”، المدعوم تركياً. لكن على أرض الواقع، وكي تتجنب هضمها من الفصائل الأقوى منها، داخل “الجيش”، التحقت بتحالفٍ وثيق مع هيئة “تحرير الشام”. وهنا يتضح البعد السياسي، المتعلّق باختراق “تحرير الشام”، للـ “الجيش الوطني”، عبر اللعب على تناقضات واختلالات موازين القوى، بين فصائله، وخلق نفوذ غير مباشر لها، على الأرض. وهو ما نجحت في تكريسه، جزئياً، في الجولة القتالية السابقة.
معبر “الحمران”، كان موضوع جدلٍ كبير، في الأيام القليلة الفائتة. إذ رفضت “أحرار الشام – القطاع الشرقي”، تسليم عائداته المالية للحكومة السورية المؤقتة، بموجب اتفاقٍ جمعَ بين مختلف فصائل “الجيش الوطني”، على توحيد الصندوق المالي لجميع المعابر. وهو اتفاق، لو نُفّذ، يعني خسارة “تحرير الشام”، لمصادر دخل جديدة كانت قد تحصلت عليها بموجب حصيلة الجولة القتالية السابقة. وهو ما جعل “تحرير الشام” تستنفر ميدانياً، للدفاع عن حليفتها “أحرار الشام – القطاع الشرقي”، من هجوم مرتقب من جانب فصائل أخرى داخل “الجيش”، لتخليصها المعبر ومنطقة الحراقات المجاورة له.
وفي التمهيد الإعلامي للمعركة المرتقبة، يتحدث مناوئو “تحرير الشام” عن سعي الهيئة، إلى احتكار سوق المحروقات في ريف حلب، على غرار ما تفعل في إدلب. وذلك عبر ممارسة ضغوط على العاملين في منطقة الحراقات في ترحين، كي لا يبيعوا النفط المكرر، إلا لممثلي “أحرار الشام – القطاع الشرقي” – حليفتها-. وهنا يظهر جانب من البعد الاقتصادي للصراع. في مستواه الشخصي المتداخل مع الفصائلي، ومع مستوى العلاقة مع الخارج. إذ يعمل قادةٌ داخل “تحرير الشام”، وداخل “أحرار الشام – القطاع الشرقي”، على تعزيز احتكار القطاعات الاقتصادية المدرة للربح، لصالح محسوبين عليهم، بصورة تفيدهم شخصياً، وفي الوقت نفسه، تعطي لفصائلهم، قوة اقتصادية، ونفوذاً على الأرض، واستقلالية عن أي ممول خارجي. تلك القوة الاقتصادية، وانعكاساتها الميدانية، تتيح لـ “تحرير الشام”، أن تعزّز وجودها على خارطة الشمال الغربي، كرقمٍ صعبٍ، يستحيل تجاوزه، حتى من جانب الأتراك، لو أرادوا.
وفيما يستغل منافسو الهيئة، احتجاجات أصحاب الحرّاقات في ترحين، جراء محاولة “أحرار الشام – القطاع الشرقي”، فرض أسعار جديدة عليهم، واحتكار نشاطهم لصالحها، وعلى حسابهم، تستغل “تحرير الشام”، بدورها، الغضب الشعبي في ريف حلب، ضد مسار “التطبيع” التركي مع نظام الأسد، فترفع من وتيرة عملياتها “الانغماسية” ضد قوات النظام، وترفع من سقف خطابها، بوصفها ممثلةً لإرادة السوريين المناوئين للنظام، والفصيل الأبرز الذي يتمتع باستقلالية ملحوظة، عن النفوذ التركي.
وفيما يصوّر منافسو الهيئة، مساعيها للدفاع عن سيطرة حليفتها على “معبر الحمران”، بوصفها تعبيراً عن شغلها الشاغل، المتمثّل في تحصيل المكاسب المالية على حساب السوريين في كانتون “المعارضة” والذين يدفعون مبالغ أعلى للمحروقات جراء احتكارها للسوق، ترد الهيئة بإجراءات تستهدف من خلالها إحراج فصائل “الجيش الوطني” المقرّبة من تركيا، بوصفها باعت قضية السوريين الرافضين للأسد، والتصقت بالتركي، حتى أصبحت عاجزة عن أخذ مسافة منه.
وبذلك يتجهز شمال غرب سوريا، لجولة قتالية جديدة، سيدور رحاها حول معبر “محروقات”، لكن أثر نتائجها، سيكون أبعد من ذلك بكثير، وسيؤثر على خريطة النفوذ الفصائلي في المنطقة، وعلى قدرة الأتراك في تنفيذ تعهداتهم الأمنية التي لا بد أنهم قدموها، للروسي ولمحاوريهم من نظام الأسد.
المصدر: المدن