ما تلا صدور الحكم القضائي بحق رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو من ردود فعل وتحليلات وتعليقات متنوعة ومتناقضة جدير بأن يجمع في كتاب لكثرة المحللين والمعلقين وغرابة تحليلاتهم وتعليقاتهم وتوقعاتهم بشأن ارتدادات القرار السياسية وآثاره المحتملة على العملية السياسية في الأشهر الخمسة المقبلة، أي من اليوم إلى موعد الانتخابات الرئاسية والنيابية في حزيران/يونيو المقبل. فلا مفر من تلخيص ذلك بأسطر قليلة بهدف وضع صورة إجمالية قدر الإمكان للمشهد السياسي في تركيا في اللحظة الراهنة.
فثمة من اعتبروا القرار القضائي «غلطة الشاطر» بالنسبة للسلطة، لأنه منح أكرم إمام اوغلو بطاقة الترشح للانتخابات الرئاسية بزخم يمكّنه من مواجه منافسه أردوغان وربما التغلب عليه في صناديق الاقتراع. وبالعكس ثمة من رأوا في القرار، الذي صدر مؤخرا ضد أكرم اوغلو «بتهمة إهانة مسؤولين»، ضربة قاضية لأحلامه في التنافس على منصب الرئاسة، وخدمةً لكمال كلجدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، الذي سيصبح في هذه الحالة المرشح الرئاسي للمعارضة السداسية. وهناك من رأوا في القرار لعبة ناجحة من السلطة لبث بذور الشقاق داخل صفوف المعارضة، بل داخل صفوف حزب الشعب الجمهوري نفسه، بين أنصار ترشيح إمام أوغلو وأنصار ترشيح كلجدار أوغلو. وهناك من دافعوا عن استقلالية القضاء بالقول إن القرار قضائي بحت ولا علاقة للسلطة السياسية به، فيما قال آخرون إن القرار اتخذ بغياب معرفة أردوغان، مقابل آخرين دافعوا عن الرأي القائل إن قراراً بهذه الخطورة من حيث تأثيره على مصير الانتخابات المقبلة لا يمكن أن يتخذ بمعزل عن معرفته.
ثمة حقائق تكمن وراء تنوع هذه القراءات يمكن تلخيصها فيما يلي:
تشير جميع استطلاعات الرأي، بما في ذلك تلك التي تقوم بها مؤسسات تعتبر مقربة من السلطة، إلى تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان معاً باطراد على وقع الأزمة الاقتصادية وبخاصة ظاهرة التضخم التي أثرت سلباً على حياة ملايين المواطنين، بما أدى إلى نفور قسم من كتلة الناخبين التقليدية للحزب الحاكم وحليفه القومي. صحيح أن استطلاعات الرأي للأشهر القليلة الماضية أظهرت تحسناً طفيفاً في شعبية السلطة، لكنه غير كاف للفوز في الانتخابات، وبخاصة الانتخابات الرئاسية التي تتطلب الحصول على 50٪ زائد صوت واحد على الأقل، وهي نسبة يصعب الحصول عليها في الجولة الأولى لأي مرشح رئاسي، في حين تشير بعض استطلاعات الرأي إلى تقدم كل من إمام اوغلو ورئيس بلدية أنقرة منصور ياواش على أردوغان في التنافس المحتمل على رئاسة الجمهورية، مقابل كلجدار أوغلو الذي يظهر في ذيل هذه القائمة من ترجيحات الناخبين.
هذه النقطة الأخيرة تتمسك بها زعيمة الحزب الخير مرال آكشنر لاستبعاد حليفها كلجدار اوغلو من فرصة الترشيح للرئاسة كمرشح وحيد للمعارضة السداسية، لمصلحة إمام أوغلو. ولإظهار تفضيلها هذا انتشرت صورتها وهي تعانق إمام أوغلو أمام الكاميرات في الاجتماع الجماهيري الذي احتشد أمام مبنى المحكمة في أعقاب القرار الذي يهدد إمام أوغلو بالسجن سنتين وسبعة أشهر ونصف وحرمانه من ممارسة العمل السياسي لفترة مماثلة. احتشد أنصار إمام اوغلو هناك تعبيراً عن تضامنهم معه واستنكارهم للحكم القضائي، فاكتسب الرجل بذلك نقاطاً إضافية في السباق نحو الرئاسة، سواء في مواجهة أردوغان في صناديق الاقتراع أو في مواجهة كلجدار أوغلو داخل الحزب الجمهوري كما داخل التحالف السداسي.
كل هذه الاعتبارات جعلت الرأي العام بغالبيته ينظر إلى الحكم القضائي المذكور بوصفه قراراً سياسياً، فحتى الأصوات الموالية نظرت إلى الموضوع من هذا المنظار وإن قدمت تحليلات تستبعد مسؤولية السلطة السياسية عن القرار وتحمّله إلى «جهات مجهولة» أرادت الإساءة إلى السلطة وتقديم «قصة مظلومية» للمعارضة ولإمام اوغلو، أو ترجيح ترشيح هذا الأخير على كلجدار اوغلو في جبهة المعارضة. من المعلوم أن أردوغان قد تعرض لحكم مشابه في العام 1998 حين كان رئيساً لبلدية إسطنبول، فسجن وحرم من النشاط السياسي، لكنه سيصبح رئيساً للوزراء في العام 2002 بعد فوز الحزب الذي أسسه للتو بغالبية مقاعد البرلمان.
على رغم شبه الإجماع هذا على تسييس الحكم الذي صدر بشأن إمام أوغلو والتشكيك في موضوعيته، يمكن القول بصرف النظر عن ذلك، إن لحكم المحكمة هذا آثارا سياسية لا يمكن تجاهلها وقد بدأ بعضها في الظهور منذ الآن، وأولها هو الارتباك الذي حدث في صفوف المعارضة بشأن موضوع اختيار المرشح المحتمل للمعارضة السداسية. فقد كانت أحزاب هذا الائتلاف تجتمع كل شهر مرة وتؤجل باستمرار الإعلان عن مرشحها المشترك، وهو ما يشير إلى خلافات بين تلك الأحزاب بشأن هذا الموضوع، ذلك لأن البند الرئيسي لبرنامج الائتلاف هو العودة إلى النظام البرلماني، وهو ما يعني أن مرشحه للرئاسة يجب أن يتمتع برحابة كبيرة تجعله يتخلى عن قسم كبير من صلاحياته لمصلحة رئيس الحكومة، ويصبح رئيساً رمزياً كما كانت الحال قبل الانتقال إلى النظام الرئاسي في العام 2017. ويرى كثيرون أن كمال كلجدار أوغلو هو الوحيد في صفوف المعارضة الذي يمكن أن يلتزم بذلك ولا يتنصل من تعهداته بعد الفوز بالمنصب. أما مرال آكشنر فحجتها في الانحياز إلى ترشيح إمام اوغلو هي أن المطلوب هو اختيار مرشح قادر على الفوز بأصوات الغالبية، وهذا ما يستبعد ترشيح كلجدار أوغلو، وأبرز أسباب ذلك كما طرح في الإعلام هو أصله العلوي وماضي حزبه اللذان قد ينفّران الناخب المحافظ الذي تأمل المعارضة باجتذابه بعد تخليه عن التصويت للحزب الحاكم.
بعيداً عن كل هذه التحليلات والقراءات المعقدة، في أنظار قارئ من خارج تركيا، ثمة قراءة بسيطة وواضحة لـ«حادثة» إمام أوغلو: لقد حكم على الرجل بالسجن والحرمان من النشاط السياسي لفترة تتجاوز موعد الانتخابات المقبلة. صحيح أن الدعوى انتقلت إلى الاستئناف وقد يليه التمييز وربما أخيراً المحكمة الدستورية، وهي أعلى سلطة قضائية في تركيا، وأن هذا المسار قد يأخذ وقتاً يتجاوز موعد الانتخابات، ولكن يمكن أيضاً تسريع هذه الإجراءات للبت في القرار في توقيت مناسب. على أي حال لقد صرح رئيس الهيئة العليا للانتخابات بأنه حتى لو ترشح إمام اوغلو وفاز في الانتخابات الرئاسية، فلن يُسَلّم مضبطة تسلم المنصب إذا صدر القرار المبرم بحقه مصادقاً على قرار محكمة البداية. وقبل ذلك سيخسر رئاسته لبلدية إسطنبول ويعيّن بدلاً منه شخص آخر.
من هنا نرى بوضوح أن هذا القرار قد أربك المعارضة بصورة جدية، وهو ما يمنح السلطة هامشاً أكبر للمناورة عشية الانتخابات «المصيرية».
المصدر: القدس العربي